محليات / ملفات خاصة اليوم, 18:00 | --

سطوة الفصل العشائري


قبائل العراق: من النخوة إلى المليار والسياسة.. زمن "الشيوخ الجدد" يقوض هيبة العشيرة! - عاجل

بغداد اليوم – بغداد

في المشهد العراقي المعاصر، لم يعد الشيخ كما كان — حاملَ النخوة وسيدَ الصلح، بل صار في بعض الأوساط عنوانًا للنفوذ والوساطة والمكسب السياسي.
منذ عام 2003، شهدت الساحة العشائرية تحوّلاً لافتًا؛ إذ صعدت وجوه جديدة إلى واجهة المشيخة، مستفيدة من الفوضى السياسية والاقتصادية التي أعقبت الاحتلال، لتتحول بعض المضايف إلى منابر انتخابية، وممرات للصفقات، ومصانع للولاءات.

ومع تضخّم “الفصول المليارية” واتساع سوق “الشيوخ بالتعيين”، تراجعت صورة العشيرة الأصيلة التي كانت تقوم على الإصلاح والكرم، لتحل محلها سلطة المال والسياسة معًا. ويرى باحثون في الشأن الاجتماعي أن هذا التحوّل لم يكن عارضًا، بل هو نتيجة مباشرة لتداخل السلطة بالعُرف، واستغلال بعض القوى السياسية لرمزية الشيخ لكسب الأصوات والتأثير في الشارع، ما جعل النخوة تُقاس بالمال، والمشيخة تُمنح بالتزكية الحزبية لا بالنسب والتاريخ.

في مواجهة هذا التدهور، دعا الشيخ علي محمود الهاشم العكيدي، أمير قبيلة العكيدات في العراق، في بيان رسمي تلقته بغداد اليوم، إلى “عقد اجتماع حقيقي للقضاء على ظاهرة الفصول المليارية التي لم ينزل الله بها من سلطان”.

وقال العكيدي: “إن هذه الممارسات جلبت لنا الإساءة والاستهزاء، وهي عبارة عن تناقضٍ وتمثيليةٍ تسيء إلى سنننا الأصيلة. أدعو إلى مقاطعة أي فصل يُطرح فيه مبلغ المليار، وعدم حضور من يتحدث بهذه المبالغ الخيالية، حفظًا على وحدة العشائر وسنائن المجتمع العشائري الإسلامي الأصيل.”
ويشير مختصون في الشأن العشائري إلى أن هذا البيان يمثل “تحركًا إصلاحيًا نادرًا من داخل البنية العشائرية نفسها”، في ظل صمتٍ واسعٍ من بعض الشيوخ الجدد الذين حوّلوا المشيخة إلى وسيلة ربح لا مسؤولية اجتماعية.

منذ عام 2003، شهد العراق تضخمًا هائلًا في عدد من يلقبون أنفسهم “شيوخًا” أو “أمراء عشائر” دون نسبٍ أو اعترافٍ اجتماعي حقيقي. وتشير بيانات مديرية شؤون العشائر في وزارة الداخلية إلى أن عدد الشيوخ المعترف بهم رسميًا لا يتجاوز 280 شيخًا، بينما تفيد دراسات اجتماعية بوجود آلاف الأشخاص الذين نصبوا أنفسهم شيوخًا بعد 2003.

ويقول باحثون في علم الاجتماع العشائري إن “الفراغ الذي أعقب سقوط الدولة المركزية سمح بنشوء مشيخات موازية استغلت الانتماء العشائري كوسيلة نفوذ سياسي واقتصادي”. ويضيفون أن هذه الظاهرة “حوّلت المشيخة من رمزٍ اجتماعي إلى وظيفة ريعية، وأنتجت طبقة من الشيوخ الجدد الذين يتعاملون مع العرف بمنطق الاستثمار لا بمنطق المسؤولية”.

الكثير من هؤلاء الجدد — بحسب باحثين في علم الاجتماع العشائري — نصّبوا أنفسهم شيوخًا بدعم سياسي أو حزبي، واستغلوا فراغ السلطة في فترات معينة لتكريس نفوذ محلي، خصوصًا في مناطق الأطراف والجنوب، حيث تتقاطع المصالح الانتخابية مع الهويات العشائرية.

ويرى مختصون أن هذا الواقع غيّر بنية العشيرة التقليدية التي كانت تستمد شرعيتها من الإجماع الداخلي والقيم الأخلاقية، إلى مشيخة قائمة على الولاء السياسي والمصالح المادية، ما أدى إلى ظهور ظواهر دخيلة كـ“الفصل الملياري” و“شيوخ الطوارئ”.

في الأصل، كان الفصل تعويضًا رمزيًا يعبّر عن الاعتراف بالخطأ وردّ الاعتبار، لكن وفق دراسات ميدانية حديثة، تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى استعراضٍ للثروة والهيبة، لا سيما في بعض المحافظات الجنوبية حيث تجاوزت بعض الفصول مليارين أو ثلاثة مليارات دينار حتى في قضايا مدنية بسيطة.

ويؤكد مختصون في علم الاجتماع أن هذا التضخم المالي “يُقنّن ثقافة الابتزاز الاجتماعي”، إذ يُستخدم الفصل كأداة للضغط والوجاهة لا للصلح، مما يؤدي إلى إفراغ العرف من محتواه الأخلاقي. كما تفيد دراسات أن هذا النمط من الفصول يُدار غالبًا من قبل شيوخ غير أصليين يبحثون عن تثبيت مكانتهم الجديدة من خلال المبالغة بالمبالغ والمظاهر.

تفيد دراسات قانونية واجتماعية أن لجوء بعض المواطنين إلى العرف العشائري لحل النزاعات لا يعكس ضعفًا في القضاء بقدر ما يعكس تفضيلًا اجتماعيًا للحلول السريعة والميدانية في بعض القضايا، خصوصًا في المناطق التي تتداخل فيها الأعراف مع البنى الاجتماعية التقليدية.

ففي كثير من المحافظات، تُعقد مجالس عشائرية لحل الخلافات البسيطة خارج المحاكم، لكن – كما يؤكد باحثون اجتماعيون – يبقى الاحتكام إلى القضاء هو الفيصل والمرجع الأعلى الذي لا يجوز تجاوزه أو الحلول محله، لأن العرف لا يمكن أن يكون بديلًا عن الدولة بل مكمّلًا لها ضمن الأطر القانونية.

ويشير مختصون في الدراسات القانونية إلى أن تضخّم مبالغ الفصول المليارية “يأتي نتيجة لغياب تنظيمٍ تشريعي واضح للعُرف، وليس لضعف المؤسسات القضائية”، محذرين من أن “ترك هذه الظواهر دون ضبط قد يؤدي إلى استغلالها من قبل بعض الأطراف وتحويلها إلى أدوات ضغط خارج القانون”.

يقول باحثون في الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية إن دعوة الشيخ العكيدي تعبّر عن تحول أخلاقي داخل النسيج العشائري نفسه، في محاولة لإحياء الدور الاجتماعي الأصيل للمشيخة الذي يقوم على الإصلاح والتسامح لا على الاستعراض. ويضيف هؤلاء أن “الأصوات العشائرية الأصيلة، مثل بيان العكيدات، تمثل مقاومة داخلية ضد العرف المشوّه الذي وُلد بعد 2003، وهي مؤشر على أن الإصلاح ممكن من الداخل وليس بقرارات فوقية”.

تجمع الدراسات الاجتماعية والقانونية على أن ما يجري داخل الساحة العشائرية ليس معزولًا عن واقع الدولة، بل هو انعكاس لتوازن العلاقة بين العُرف والقانون. فكلما رسّخت الدولة حضورها المؤسسي، استقامت الأعراف، وكلما ساد الوعي القانوني، تراجع استغلال المشيخة أو تسييسها. 

ويرى باحثون في الشأن الاجتماعي أن تنظيم العمل العشائري لا يعني إقصاءه، بل إدماجه في الإطار القانوني للدولة بوصفه رافدًا للتسوية الاجتماعية وحلّ النزاعات، لا بديلاً عن القضاء الذي يبقى المرجع الأعلى والفيصل الحاسم في جميع القضايا. ويشيرون إلى أن معالجة ظاهرة “الفصول المليارية” تتطلب تشريعًا واضحًا يحدّد مسؤوليات الشيوخ وينظّم الأعراف ضمن ضوابط الدولة، إلى جانب تمكين القضاء من متابعة أي تجاوزات تسيء إلى روح العرف أو تُستغل لتحقيق مكاسب مالية أو سياسية.

وبينما يبقى بيان أمير قبيلة العكيدات نموذجًا على الوعي الإصلاحي من داخل المؤسسة العشائرية نفسها، يؤكد المختصون أن العشيرة الأصيلة هي التي تساند الدولة في حفظ السلم الأهلي، لا تلك التي تتاجر بالخلافات أو تزايد بالمال.

فالعُرف حين يُهذّبه القانون يصبح قوة استقرار، أما حين يُترك بلا ضابط فيتحول إلى عبءٍ على العدالة، وهذه هي المعادلة التي يدركها الأصلاء ويدعون إلى ترسيخها اليوم.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغددا اليوم"

أهم الاخبار

3 مفاتيح للمنتخب الوطني في مواجهة المد السعودي

بغداد اليوم- بغداد يخوض المنتخب الوطني، غداً الثلاثاء، (14 تشرين الأول 2025)، مواجهة تاريخية وحاسمة أمام نظيره السعودي في إطار مباريات الجولة الأخيرة من الملحق الآسيوي المؤهل إلى كأس العالم 2026 بالولايات المتحدة وكندا والمكسيك. ومن المقرر أن تقام

اليوم, 19:36