بغداد اليوم - ديالى
في عمق بادية قزانية شرق ديالى، وعلى تخوم الحدود العراقية–الإيرانية، تتجدد كل خريف طقوس الصيد التي تجمع بين المغامرة والبحث عن الثروة، حيث ينطلق العشرات من الصيادين لملاحقة الصقر "الحر"، أحد أندر وأغلى الطيور في العالم، والذي قد يصل سعره في بعض الأحيان إلى أكثر من 100 ألف دولار. المشهد هناك لم يعد مجرد تقليد موسمي، بل أصبح جزءاً من دورة اقتصادية واجتماعية تمتد جذورها من العراق إلى أسواق الخليج التي تُعد المستهلك الأكبر لهذه الطيور.
موسم الصيد.. مغامرة ومردود مالي
الصقار جعفر الوندي أوضح لـ"بغداد اليوم" أن بادية قزانية تُعد محطة أساسية في مسار هجرة الصقور البرية القادمة من أواسط آسيا، مؤكداً أن "الصقر الحر يظل الهدف الأبرز للصيادين، حيث تتفاوت أسعاره باختلاف لونه وعمره، وقد تباع بعض النماذج النادرة بمبالغ خيالية". وأشار الوندي إلى أن "اثنين من الصيادين تمكنا مؤخراً من بيع صقر بمبلغ ستة ملايين دينار، ما يعكس بداية قوية للموسم الحالي الذي قد يستمر لثلاثة أشهر في تضاريس وعرة تغطي مساحات شاسعة".
هنا تتقاطع الهواية مع الطموح المالي؛ فالصيد في تلك المناطق ليس مجرد تسلية، بل مجازفة قد تدر أرباحاً كبيرة في حال الظفر بصقر نادر.
البادية.. إرث طبيعي ومورد اقتصادي
مدير ناحية قزانية السابق مازن أكرم أشار إلى أن "البادية لطالما كانت وجهة لصيادي الصقور، فالصيد فيها يمتد لعقود طويلة، ولم يكن محصوراً في إطار المتعة فقط، بل ارتبط بمردود اقتصادي كبير عند اصطياد طيور تباع بملايين الدنانير". وأضاف أن "قزانية، لو استُثمرت بالشكل الصحيح، يمكن أن تتحول إلى وجهة سياحية بيئية مهمة، فهي ما تزال محافظة على طبيعتها البكر منذ آلاف السنين، الأمر الذي يمنحها قابلية جذب عالية للمهتمين بالصيد والسياحة البيئية معاً".
الطلب الخليجي.. السوق المحرك
لا ينفصل الصيد في العراق عن الطلب الإقليمي، إذ يشكّل السوق الخليجي، وبالأخص في قطر والسعودية والإمارات، الوجهة الرئيسية للصقور الحرة العراقية. فالصقور ليست مجرد طيور في تلك الدول، بل رمز للتراث، وركيزة في رياضة الصيد بالصقور التي تحظى بمكانة اجتماعية رفيعة. وتشير التقديرات إلى أن أسعار بعض الصقور في المزادات الخليجية قد تتجاوز حاجز الـ100 ألف دولار، بحسب لونها ونقاوة سلالتها وسرعة استجابتها للتدريب. هذه الفوارق تجعل من العراق نقطة جذب أساسية، لاسيما أن باديته تقع على خط هجرة الصقور البرية القادمة من آسيا الوسطى.
مخاطر الصيد الجائر وانقراض الأنواع
الناشط البيئي رافد التميمي حذر من المخاطر المترتبة على استمرار الصيد الجائر، قائلاً إن "معدلات صيد الصقور انخفضت خلال العقد الأخير بنسبة تصل إلى 70%، وهو مؤشر خطير على تراجع أعدادها". وأوضح أن "الإقبال المتزايد، والطلب الخليجي الكبير، والأسعار المغرية التي تصل لعشرات الآلاف من الدولارات، جميعها عوامل تدفع الصيادين لمواصلة رحلاتهم، ما يزيد من احتمالات انقراض الصقر الحر وغيره من الأنواع النادرة".
التحذير البيئي يضع علامات استفهام حول مستقبل هذه الطيور، إذ إن غياب التشريعات الصارمة، إلى جانب ضعف الرقابة، يجعل من الصيد سوقاً مفتوحة قد تستنزف الثروة الطبيعية تدريجياً.
الصيد كهواية وهوية اجتماعية
رغم الجدل البيئي، يبقى صيد الصقور جزءاً من هوية المجتمعات البدوية في العراق والخليج على حد سواء. فالصقر الحر لا يُنظر إليه كطائر فقط، بل كرمز للشجاعة والمهارة والإرث العربي الممتد منذ قرون. الصياد الذي ينجح في الإمساك بصقر نادر يحقق مكانة اجتماعية بين أقرانه، إضافة إلى العائد المالي الكبير. وفي الوقت ذاته، يظل الصيد بالصقور في الخليج من الرياضات التراثية التي تجمع بين الأصالة والتفاخر الاجتماعي، ما يجعل من هذه الهواية جسراً بين الماضي والحاضر، وبين العراق وأسواق الخليج.
بين بادية قزانية التي تتحول كل عام إلى مسرح لصراع بين الإنسان والطبيعة، وبين المزادات الخليجية التي ترفع أسعار الصقور إلى مستويات خيالية، تبقى قصة الصيد بالصقور واحدة من أكثر الحكايات تعقيداً في المنطقة. فهي تحمل في طياتها مزيجاً من المغامرة والهوية والثروة، لكنها في الوقت ذاته تهدد بانقراض أنواع نادرة من الطيور. وهنا يظهر التحدي الأكبر: كيف يمكن الحفاظ على التراث والهواية، من دون التضحية بالتوازن البيئي؟
بغداد اليوم - إصابة 4 أشخاص جراء سقوط مسيرة وانفجارها في مدينة إيلات الاسرائيلية