بغداد اليوم - بغداد
لم تعد جرائم الاتجار بالبشر في العراق مجرد انحرافات فردية أو نشاطات سرية محدودة، بل تحولت إلى ملف متشعب يتقاطع مع القوانين الدولية، والأمن السيبراني، والجريمة المنظمة العابرة للحدود. فالدستور العراقي في مادته (37) يؤكد على صيانة الكرامة الإنسانية وحظر جميع أشكال الاتجار بالبشر، فيما يجرّم قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم (28) لسنة 2012 عمليات بيع وشراء الأعضاء البشرية تحت أي ذريعة. إلا أن الواقع الميداني يكشف عن فجوة واسعة بين النصوص القانونية والقدرة التنفيذية على ضبط هذه الظاهرة. ووفق تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، فإن تجارة الأعضاء البشرية غير الشرعية تدر عالميًا أكثر من مليار دولار سنويًا، وتشكل نحو 10% من مجمل عمليات زراعة الأعضاء. هذه الأرقام، عند إسقاطها على بيئة هشّة مثل العراق، تعني أن البلاد أصبحت ساحة مفتوحة أمام المافيات التي تستغل الدارك ويب لخلق سوق خفي للأعضاء البشرية بعيدًا عن أعين الرقابة.
البعد التقني والأمني
يشكّل الفضاء السيبراني مظلة معقّدة لنشاط المافيات المنظمة، حيث يوفر الإنترنت المظلم (الدارك ويب) بيئة محمية يصعب على أجهزة الدولة تعقبها. هذا النطاق من الشبكة العالمية لا يخضع لرقابة محركات البحث التقليدية، ويحتاج إلى برمجيات متخصصة لفتحه، الأمر الذي يجعل منه ملاذًا مفضلاً لتبادل البيانات غير القانونية، من تجارة الأعضاء إلى تهريب الأسلحة. ويؤكد المختص في الشؤون الأمنية اللواء المتقاعد جواد الدهلكي في حديثه لـ"بغداد اليوم" أن "نظام الـ(Dark Web) ليس مجرد محتوى هابط أو فلسفة يستخدمها الملايين، بل هو نظام خفي يصعب الولوج إليه عبر الشبكات التقليدية، إذ يحتاج إلى برمجيات متخصصة وضبط لمحركات البحث، ويُدار عبر أساليب تمويه معقدة من خلال الاتصال الندّي (P2P) أو من صديق إلى صديق (F2F)".
التوصيف يعكس حجم التحدي الأمني، إذ أن الدخول إلى هذه الشبكات يتيح للمجرمين مساحة واسعة من الحرية بعيدًا عن الرقابة التقليدية. وتشير تقارير اليوروبول إلى أن أكثر من 30 ألف موقع غير قانوني يعمل في الدارك ويب، بينها أسواق متخصصة بالأعضاء البشرية، ما يجعل البيئة التقنية عاملاً جوهريًا في استدامة هذه الجرائم. وفق تقديرات قانونية، فإن غياب إطار تشريعي متكامل للأمن السيبراني في العراق يضاعف من خطورة هذا الملف، خصوصًا أن القوانين القائمة تركز على تجريم الفعل دون امتلاك آليات تقنية فاعلة للتتبع والمواجهة.
العوامل الاقتصادية والاجتماعية
تتداخل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في العراق مع تفاقم جرائم الاتجار بالبشر، حيث خلقت البطالة المرتفعة وغياب شبكات الحماية الاجتماعية بيئة خصبة تستغلها المافيات. فبحسب تقديرات وزارة التخطيط العراقية لعام 2025، يعيش أكثر من 17% من السكان تحت خط الفقر، فيما تتجاوز معدلات البطالة بين الشباب 35%. هذا الواقع يجعل فئات واسعة من المجتمع عرضة للإغراءات المالية التي تقدمها شبكات الجريمة المنظمة. ويؤكد اللواء المتقاعد جواد الدهلكي أن "من أهم عوامل انتشار هذا الويب هو عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ووجود جماعات خارجة عن القانون تقوم بإيهام الشباب ببيع جزء من أعضائهم البشرية، وغالبية الضحايا هم من الأطفال المراهقين والشباب المعوزين الباحثين عن المال".
يتوضح هنا العلاقة المباشرة بين هشاشة الاقتصاد وضعف منظومة العدالة الاجتماعية من جهة، وتوسع نشاط المافيات عبر الدارك ويب من جهة أخرى. وتشير دراسات بحثية صادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أن 10% من عمليات زراعة الأعضاء عالميًا تتم بطرق غير قانونية، وغالبية ضحاياها من الدول النامية. وبالمقارنة، فإن ضعف فرص التعليم والتشغيل في العراق، إلى جانب غياب آليات رقابية صارمة على الهجرة غير الشرعية، يسهم في انكشاف الفئات الهشة، ويزيد من احتمالية وقوعها فريسة لوعود السفر أو الإثراء السريع التي تنتهي غالبًا في عيادات غير مرخصة أو أسواق سوداء. وفق تقديرات قانونية، فإن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تنفصل عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تحد من هشاشة الفئات المستهدفة.
الأسواق السوداء وممارسات المافيات
تظهر تقارير متخصصة أن الدارك ويب لم يعد مجرد مساحة لتبادل المعلومات الممنوعة، بل تحول إلى سوق موازٍ تُدار فيه عمليات بيع وشراء منظمة، تمتد من تجارة الأعضاء إلى بيع الأطفال والأسلحة والقتلة المأجورين. هذه الأسواق الإلكترونية تعتمد على أنظمة دفع مشفّرة مثل العملات الرقمية، ما يضيف طبقة إضافية من التمويه على مسارات الأموال. ويكشف اللواء المتقاعد جواد الدهلكي أن "عصابات تقوم بإيهام الناس بالهجرة، لينتهي المطاف بضحاياها في عيادات متنقلة حيث يفقدون جزءًا من أعضائهم".
ما كشفه اللواء يتقاطع مع تقارير الاتحاد الأوروبي (2024) التي تؤكد أن بعض المتاجر في الدارك ويب تعرض نماذج تحاليل طبية متطابقة مع أنسجة الأعضاء المطلوبة، وتمنح للمشترين أكثر من خيار، بأسعار تنافسية تتراوح بين 5 آلاف و200 ألف دولار حسب نوع العضو. وفق دراسات بحثية، فإن هذه الممارسات تعكس مدى "مأسسة" الجريمة المنظمة عبر أدوات تكنولوجية، بحيث لم تعد مقتصرة على عمليات فردية أو ممارسات محلية، بل تحولت إلى سوق دولي متكامل بعقود واتفاقيات رقمية. وفي السياق العراقي، تشير تقديرات من وزارة الداخلية (2023) إلى تسجيل أكثر من 200 حالة اتجار بالبشر سنويًا، جزء منها مرتبط ببيع الأعضاء، وهو رقم يُعدّ متواضعًا مقارنة بحجم النشاط الفعلي في السوق السوداء الذي غالبًا ما يظل غير معلن. وفق تقديرات أمنية، فإن هذه الظاهرة تمثل تهديدًا مزدوجًا للأمن الداخلي وللسيادة، إذ تسلب المجتمع طاقاته البشرية وتغذي في الوقت نفسه اقتصادًا إجراميًا عابرًا للحدود.
الارتباطات الدولية والبعد الجيوسياسي
لم يعد ملف الاتجار بالبشر وتجارة الأعضاء مقتصرًا على السوق السوداء أو المافيات المحلية، بل أخذ أبعادًا سياسية وعسكرية معقدة ترتبط بصراعات دولية. إذ توضح تقارير دولية أن بعض القوى والكيانات المسلحة تستخدم أساليب التجنيد غير القانوني عبر الدارك ويب لتأمين موارد بشرية لصراعاتها. ويشير اللواء المتقاعد جواد الدهلكي في حديثه لـ"بغداد اليوم" إلى أن "منظمة فاغنر الروسية قامت بتجنيد شباب عراقيين وإرسالهم إلى جبهات القتال هناك كوقود بشرية، بعد إغرائهم بالمال والجنس ومنح الإقامة".
ما أورده الدهلكي يكشف انتقال الظاهرة من مجرد استغلال اقتصادي إلى توظيف سياسي وأمني، حيث تتحول الفئات الهشة من ضحايا للاتجار بالأعضاء إلى أدوات في نزاعات إقليمية ودولية. وتشير تقديرات بحثية صادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) إلى أن ظاهرة تجنيد المرتزقة عبر قنوات غير شرعية تضاعفت بعد عام 2020، وأصبحت تشمل مناطق نزاع مثل ليبيا وسوريا وأوكرانيا. وبالمقارنة، فإن العراق، بحكم هشاشة مؤسساته الأمنية والاجتماعية، يمثل بيئة مهيأة لامتداد هذه الأنشطة. وفق تقديرات قانونية، فإن هذا المسار يضع ملف الاتجار بالبشر في دائرة الأمن القومي، لا كجريمة جنائية فحسب، بل كتهديد مباشر لسيادة الدولة وتماسكها.
ملف مركب
تكشف المعطيات المطروحة أن جرائم الاتجار بالبشر في العراق، وبخاصة تجارة الأعضاء عبر الدارك ويب، لم تعد تُصنَّف ضمن الجريمة التقليدية، بل تحولت إلى ملف مركب تتداخل فيه الأبعاد القانونية والاقتصادية والأمنية والسياسية. ما تغيّر هو انتقال هذه الظاهرة إلى فضاء سيبراني محمي يصعّب على أجهزة الدولة ملاحقتها، وما لم يتغيّر هو هشاشة المنظومة العراقية في مواجهة هذه الأنشطة، سواء من خلال ضعف التشريعات المتخصصة أو محدودية القدرات التقنية والمؤسسية. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 10% من عمليات زراعة الأعضاء في العالم تتم بطرق غير قانونية، فيما تُسجَّل في العراق سنويًا مئات الحالات التي لا تعكس الحجم الفعلي للنشاط القائم، وهو ما يعني أن البلاد ما تزال في دائرة الخطر المستمر.
الأثر المتوقع لاستمرار هذا الانكشاف يتمثل في تآكل المجتمع من الداخل عبر استنزاف الفئات الأكثر هشاشة، وتحويل الشباب والأطفال إلى ضحايا سوق سوداء عالمية لا تعترف بالحدود. وفي الوقت نفسه، يفتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية لاستخدام هذه الفئات كأدوات سياسية وعسكرية، كما في حالات التجنيد غير المشروع. وفق تقديرات قانونية، فإن معالجة هذا الملف تتطلب استراتيجية وطنية شاملة تدمج الأمن السيبراني بالتشريعات المحدثة، وتعزز التعاون الدولي، إلى جانب إصلاحات اقتصادية واجتماعية تحد من هشاشة الفئات المستهدفة. من دون ذلك، سيبقى العراق مكشوفًا أمام أخطر أشكال الجريمة المنظمة، في وقت تتسارع فيه تحولات التكنولوجيا والجريمة العابرة للحدود بوتيرة تتجاوز قدرات المواجهة التقليدية.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم – بغداد ملف "إليزابيث" يتحول إلى محور جدل داخلي وخارجي، مع تضارب في الروايات بشأن كيفية إطلاق سراحها. فبينما تتحدث الحكومة العراقية عن "تحرير" تم بجهود أجهزتها الأمنية، تشير روايات أخرى إلى أنها أُفرج عنها من قبل الجهة