بغداد اليوم - بغداد
في السنوات الأخيرة، لم يعد الإلحاد في العراق مجرد مواقف فردية أو حالات معزولة، بل تحوّل تدريجيًا إلى ظاهرة واضحة، خصوصًا بين فئة الشباب. وقد أثارت تصريحات أستاذ العلوم السياسية خالد العرداوي، اليوم السبت (28 حزيران 2025)، تعليقا على تزايد نسبة الملحدين في العراق، وحول العلاقة بين صعود الإسلام السياسي وتنامي هذه الظاهرة، تساؤلات عميقة عن مستقبل الهوية الدينية في العراق، وما إذا كانت الموجة الجديدة تمثل تمردًا على الفشل السياسي أكثر مما هي موقف وجودي أو فكري بحت.
الإسلام السياسي تحت مجهر الغضب الشعبي
يرى العرداوي، في حديثه لـ"بغداد اليوم"، أن هناك "تناسبًا طرديًا واضحًا بين تنامي الإسلام السياسي وتصاعد الاتجاه الإلحادي في البلدان العربية، ومنها العراق". ويُرجع هذا الترابط إلى خيبة الأمل العامة من أداء القوى التي رفعت شعار الإسلام كحلّ، لكنها – بحسبه – "أخفقت في تقديم نموذج حكم ناجح، ما دفع قطاعات من المجتمع، ولا سيما الشباب، إلى تحميل الدين مسؤولية الإخفاق السياسي والمعيشي".
يُشدّد العرداوي على أن المشكلة لا تكمن في الدين نفسه، بل في تسييسه وتوظيفه ضمن مشاريع سلطوية فاشلة. ويضيف أن "الإسلام السياسي اليوم يواجه لحظة مراجعة وجودية؛ فإما أن يُجدد أدواته ويبني ثقة مجتمعية، أو أن يلقى نفس مصير التيارات القومية التي انهارت تحت ثقل الشعارات والواقع المتناقض".
التاريخ يعيد نفسه: من الكنيسة إلى الإسلام السياسي
ولمقاربة الظاهرة ضمن أفق أوسع، يستشهد العرداوي بالتجربة الأوروبية الحديثة، حيث حمّلت المجتمعات الكنيسة والطبقة الأرستقراطية مسؤولية التخلف والاستبداد، ما قاد إلى ثورات فكرية عنيفة ضد الدين الممأسس. "حتى قال أحدهم: لن تُولد الحرية إلا بعد شنق آخر أرستقراطي بأمعاء آخر قسيس".
وينقل هذا النموذج إلى السياق العربي، حيث شهدت القومية العربية انتكاسة مشابهة. بعد فشلها في التنمية والوحدة، تراجع خطابها، واحتلت الوطنية والمدنية مكانها في الوعي الجمعي، فيما أصبحت الأحزاب القومية هامشية. "ويبدو أن الإسلام السياسي يعيد إنتاج نفس المسار"، يقول العرداوي، محذرًا من أن "عدم الاعتراف بالأخطاء قد يؤدي إلى سقوط مدوٍ".
أرقام تتحدث: من الخفاء إلى التعبير العلني
لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد الملحدين في العراق، إلا أن دراسات غير حكومية وتقارير إعلامية محلية ودولية تشير إلى تصاعد الظاهرة، خاصة بعد احتجاجات تشرين 2019، وما تلاها من اهتزاز في صورة المرجعيات السياسية والدينية على حد سواء.
وبحسب بيانات نشرها موقع World Population Review، يتصدّر العراق قائمة الدول العربية من حيث نسبة الإلحاد المعلنة لعام 2025، بنسبة تبلغ 4.5% من السكان، وهي الأعلى بين الدول العربية، متقدمًا على تونس (2.2%) ولبنان (2.1%).
ووفقًا لتقرير سابق لـ"معهد غالوب"، فإن نسبة غير المتدينين في العراق ارتفعت من 9% عام 2012 إلى ما يزيد عن 30% عام 2020، وتقدّر بعض المراكز البحثية أن نسبة المتشككين في المعتقدات الدينية قد تكون أعلى بكثير في الفئة العمرية بين 18 و30 عامًا، خاصة في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة والنجف.
وتؤكد تقارير ميدانية أن وسائل التواصل الاجتماعي شكّلت متنفسًا لهذا الاتجاه، حيث تنشط صفحات ومنتديات تنتقد الخطاب الديني التقليدي، وتطرح تساؤلات فلسفية وجودية، وسط مناخ من الرفض السياسي والاجتماعي.
وتكشف هذه الأرقام عن تحول لافت في البنية الدينية للمجتمع العراقي، وسط مناخ اجتماعي وسياسي متوتر، وضعف الثقة بالمؤسسات، وتراجع أداء القوى الدينية المتصدرة للمشهد العام منذ عام 2003.
بين الغضب والتشكيك: هل هو إلحاد حقيقي أم احتجاج رمزي؟
يرى مختصون في علم الاجتماع أن الكثير من "الملحدين الجدد" لا يُمكن تصنيفهم ضمن الإلحاد الكلاسيكي، بل هم أقرب إلى حالة "رفض غاضب" تجاه الواقع الديني والسياسي الذي يعيشونه. يقول أحد الباحثين: "إنهم شباب فقدوا الثقة بكل شيء: الدولة، الدين، المؤسسة، الأسرة، التعليم.. فاختاروا أن يبدأوا من نقطة الصفر".
وهو ما يوافق عليه العرداوي ضمنيًا، حين يعتبر هذه الحركات الإلحادية "جرس إنذار مبكر" لصراخ اجتماعي مكبوت، محذرًا من أن "التيارات السياسية والدينية التي تستهين بهذه المؤشرات، قد تجد نفسها ذات يوم أمام موجة جارفة لا يمكن وقفها".
بين الإنذار والتغيير المحتمل
رغم حساسية الموضوع، إلا أن ظهور موجات الإلحاد أو التشكيك الديني في العراق يجب ألا يُقرأ من زاوية أمنية أو أخلاقية فقط، بل باعتباره مؤشّرًا على أزمة ثقة وانقطاع في الحوار بين المجتمع والدولة، وبين الدين والسياسة.
فالإلحاد، في كثير من الحالات، ليس موقفًا وجوديًا بقدر ما هو رد فعل احتجاجي على خذلان كبير. وإذا أرادت قوى الإسلام السياسي أن تتجنّب المصير ذاته الذي واجهته الحركات القومية، فعليها أن تفهم الرسالة: الشباب لا يبحثون عن فتوى، بل عن كرامة وعدالة وفرص حياة حقيقية.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم - بغداد مع اتساع دائرة النقاش حول الأمن السيبراني في العراق، ومع تزايد التحذيرات من مخاطر "المحتوى الهدّام" أو الخطاب المتطرف على الإنترنت، بدأ مصطلح "الأمن القومي" يتردّد بقوة في سياق الحديث عن الفضاء الرقمي. غير أن هذا