آخر الأخبار
الإطار يقطع الطريق: لن نقبل أي محاولات لتغيير الواقع السياسي في العراق بعد معركة "العصائب الحمراء".. الغموض يحيط بمصير ماهر الأسد الكشف عن تفاصيل الساعات الأخيرة لهروب المسؤولين في النظام السوري "العراق ضمن خارطة التغيير".. مختص: قرارات دولية مرتقبة ستتخذ قبل قدوم ترامب الكونغرس الأمريكي يبلغ "أبل" و"غوغل" بإزالة "تيك توك" نهائيا الشهر المقبل

الهجرة تستنزف الوجود المسيحي في العراق.. الأمن والإقتصاد والتمثيل الحكومي على رأس الأسباب

سياسة | 27-09-2024, 16:03 |

+A -A

 بغداد اليوم- بغداد

لم يكن إيهاب (37 سنة) المسيحي النازح الى دهوك، في حاجة الى وقت طويل ليدرك طبيعة الحياة التي تنتظره، عندما عاد إلى بلدته "تللسقف" في سهل نينوى صيف 2017 بعد تحريرها من تنظيم داعش، إذ كان منزله الذي فرغ من بنائه قبل سنتين من نزوحه في 2014 قد تحول إلى ركام، وبلدته يحاصرها الدمار، بلا بنى تحتية وتفتقد لفرص العمل ولإدارة قادرة على استعادة الحياة فيها.

بينما كانت البلاد غارقة في الصراعات السياسية والمشاكل الأمنية ويضربها الفساد وسوء الادارة، لم يجد ايهاب أمامه سوى المغادرة مع زوجته وطفليهما إلى لبنان ومحاولة التقديم للحصول على لجوء إنساني في استراليا عبر الأمم المتحدة. 

يقول الشاب الذي كان يمارس أعمالا حرة قبل هجرته:"بعد سيطرة داعش على تللسقف في صيف 2014، اضطررنا للنزوح إلى محافظة دهوك في إقليم كردستان، وأنتظرنا بشوق كبير ثلاث سنوات لنستعيد بلدتنا ونعود إلى منزلنا لكن الأوضاع كانت صادمة....".

يفكر لبرهة قبل أن يواصل:"كانت معارك التحرير قد دمرت منزلنا، وقبلها حين نزحنا كان مقاتلو التنظيم سرقوا كل ما نملك، لهذا قررنا الهجرة إلى بلد آخر وبدء حياة جديدة، فلم نعد نمتلك شيئاً في العراق".

لم يكن طريق هجرة إيهاب وعائلته، مفروش بالورود، معاناة الانتظار في ظروف معيشية صعبة ووسط قلة فرص العمل امتدت لثلاث سنوات "لم نشهد فيها سوى القلق من النتيجة، والخوف من العودة بلا شيء، والبكاء والألم بسبب مشاكل الغربة وما حل بالعائلة".

يقول ذلك بكلمات متقطعة وشفاه مرتجفة، ثم يستعيد رباطة جأشه ويتابع:"حصلنا في العام 2020 على اللجوء. كان ذلك أفضل ما تحقق لنا، وسافرنا إلى أستراليا لبدء حياة جديدة.. حياة كريمة وتضمن لأطفالنا مستقبلاً أفضل".

إيهاب، واحد من بين عشرات آلاف المسيحيين، الذين أضطروا إلى ترك مناطقهم بمحافظة نينوى وخاصة بلدات سهل نينوى ذات الغالبية المسيحية في حزيران/يونيو 2014 بعد سيطرة تنظيم داعش عليها، ونزحوا إلى محافظات اقليم كردستان، أو هاجروا إلى خارج البلاد اذا وجدوا الى ذلك سبيلا.

التنظيم الذي سيطر خلال أيام على غالبية مناطق سهل نينوى شمال شرقي الموصل، كان قد فرض ثلاثة خيارات على المسيحيين، إما الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الرحيل وترك كل ما يمتلكونه، فاختار الأغلبية الساحقة الخيار الأخير. 

وإزاء الهجرة المتواصلة، بدأت المخاوف تتعاظم من أن ينتهي الوجود المسيحي في العراق، ومعها بدأت الكنائس المحلية والمنظمات الإنسانية تحاول إقناع المتبقين بعدم الهجرة وتشجيعهم بشتى الطرق للبقاء بما فيه إعادة بناء مجتمعاتهم، وهذا ما سيتقصى عنه هذا التحقيق. 

 

الهجرة مجدداً

تقدر مصادر غير رسمية، أعداد المسيحيين في العراق قبل انهيار النظام العراقي السابق في نيسان/أبريل 2003 بنحو مليون ونصف المليون مسيحي، يؤكد ذلك لويس مرقوس أيوب، العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية، ويقول بأن أعدادهم تقلصت لتبلغ نحو 400 ألف شخص فقط.

وقد تواجد المسيحيون بنسبة أكبر في محافظة نينوى، ببلداتهم التأريخية في سهل نينوى مثل بغديدا (قرقوش) مركز قضاء الحمدانية، وقضاء تلكيف وناحيتي برطلة وألقوش، وأيضاً في مدينة الموصل مركز المحافظة.  

لكن أعدادهم كانت في تناقص مستمر وتدريجي بسبب هجمات التنظيمات الارهابية وأبرزها تنظيم القاعدة، سواء في بغداد او سهل نينوى او الموصل حيث كان يعيش 20 ألف مسيحي، بينما كانت تعيش نحو 30 ألف عائلة في بلدات سهل نينوى.

وحتى قبل سيطرة داعش على نينوى في حزيران/يونيو 2014 كانت هجرة المسيحيين مستمرة وبمعدلات كبيرة هربا من التمييز المجتمعي ومن الهجمات الارهابية على أساس ديني، وبحسب تقديرات لباحثين مسيحيين، كانت هنالك فقط 1000 عائلة مسيحية في الموصل، و15 ألف عائلة في عموم سهل نينوى، قبيل غزو التنظيم، لتنزح هي الأخرى صوب اقليم كردستان خلال اسابيع قليلة فقط حتى أصبحت نينوى خالية من المسيحيين.

الخور اسقف يوسف شمعون، يذكر بأن عدد المسيحيين قبل سيطرة التنظيمات الارهابية على مناطق في العراق كان يشكل 5% من نسبة سكان البلاد، لكنه أصبح اليوم فقط 1% وأنهم بحاجة للوحدة والتماسك للبقاء، حسب رأيه.

معدة التحقيق نظمت استبياناً شارك فيه 128 مسيحياً من مناطق سهل نينوى عبر الأنترنيت فضلاً عن نسخ ورقية وزعتها في الكنائس والمجتمعات المحلية على مدار ستة أسابيع، لفهم الدوافع الرئيسية وراء هجرة المسيحيين على الرغم من عودة الاستقرار الأمني وبدء تنفيذ خطط اعادة الاعمار في مناطقهم.

تضمن الأستبيان عشرة أسئلة، تغطي جوانب مختلفة عن أسباب الهجرة  والتحديات التي تواجه المهاجرين، وشملت الأسئلة الأمن، الفرص الاقتصادية، التعليم، الخدمات الاجتماعية. 

 

هل يرغب المسيحيون بالهجرة حقا؟

بدأ الأستبيان بسؤال يتعلق برغبة المسيحي في الهجرة إلى خارج البلاد، وكانت النسبة بين الراغب بالهجرة وغير الراغب والممتنع عن الاجابة، كبيرة لصالح الراغبين بالهجرة وفق ما يظهره المخطط التالي:

 

أبدى 62 شخصاً (تعادل نسبتهم 48%) من المشاركين في الاستبيان، عن رغبتهم الفعلية في الهجرة إلى خارج العراق، وهي نسبة كبيرة في ظل عدم وجود ظروف استثنائية حاليا تدفع باتجاه الرغبة في الهجرة كرد فعل.

وتؤكد رغبة نحو نصف المجتمع المسيحي بالهجرة، المخاوف بشأن وجود تهديد جدي مستقبلي على الوجود المسيحي في البلاد. 

ولتوضيح أكثر لموقف المشاركين في الاستبيان من الهجرة، ومتى قرروا ذلك؟ وهو محور السؤال الثاني في الإستبيان:

 

يتضح أن 32% ممن شاركوا في الاستبيان فكروا بالهجرة منذ سنة 2014، و20% فكروا في ذلك خلال السنوات التالية وصولا إلى العام الحالي 2024.

 

وتتعدد الأسباب والدوافع وراء الهجرة، بعضها استجد عقب تحرير سهل نينوى من داعش في 2016، كميل الكفة لأقليات أخرى على حساب المسيحيين، مثل الشبك، أو قلة فرص العمل حيث للجانب الاقتصادي أثر كبير على القرار، أو عدم الشعور بالأمان ولاسيما بعد حريق نشب في قاعة للمناسبات ببلدة قره قوش في 26أيلول/سبتمبر 2023 وراح ضحيته العشرات من المسيحيين، مع أن الجهات الأمنية أكدت بأنه نجم عن حادث ولم يكن نتيجة عمل إرهابي. 

ندى (34 سنة) كانت معلمة في مدرسة ابتدائية بقره قوش، واحدة ممن دفعت ثمناً غالياً لوجودها بتلك القاعة ذلك اليوم، إذ كانت المناسبة حفل زفاف لقريبة لها، وكانت برفقة زوجها وأطفالهما الثلاث عندما حدث كل شيء بسرعة كبيرة، وحاصرتهم النيران من كل مكان.

تقول بحرقة وهي تستعيد مشاهد ذلك اليوم:"حصل كل شيء بسرعة، كأنه مر أسرع من الضوء والصوت.. النيران انتشرت وبدأت تحرق أجسانا والصرخات تتعالى".

تتجمع الدموع في عينيها وهي تواصل:"خسرت طفلتي نغم، كانت جميلة ورائعة بعمر ثمان سنوات". وتابعت بصوت مرتجف وكلمات متقطعة، معاتبة نفسها: "لا أعرف لم نجوت أنا، فقد أصبت بحروق فقط".

تلك المآساة تركت ندوباً عميقة في نفس ندى، وقررت السفر مع زوجها وطفليهما إلى الأردن وتقديم طلب لجوء إنساني إلى الأمم المتحدة هناك، بهدف الذهاب إلى أستراليا حيث تعيش شقيقة لها منذ أربع سنوات في مدينة ملبورن.

تقول ندى:"أقدمنا على هذه الخطوة، لأننا فقدنا الأمل بتحسن الأوضاع هنا، ومع الأحداث الأمنية الصعبة والفوضى والفساد الذي يسود مدينتي والعراق بصورة عامة.. نجونا من كلّ الأحداث التي مرّت علينا، منها فاجعة الحافلات التي قتل فيها طلبة مسيحيون في 2010 وهجوم داعش على مدينتنا، وقضينا ثلاثة أعوام في أربيل، وعدنا وبدأنا حياتنا من الصفر وحاولنا الاستقرار حتى خسارة طفلتنا في تلك القاعة التي لغاية الآن لا نعرف شيئا عن التحقيق الذي أجرته الجهات الأمنية لمعرفة حقيقة ماحدث".

وتضيف معلقة على انتظارها الذي قد يدوم لسنوات قبل ان تنجح في الهجرة:"الحياة في الأردن صعبة جداً، هنالك بعض المساعدات التي تقدمها الكنائس، هي لا تكفي فالحياة مكلفة جداَ هنا، لكننا سنتحمل وننتظر، ليس أمامنا سبيل آخر". 

 

                                                    أسباب هجرة المسيحيين

 

تتعدد الأسباب الكامنة وراء هجرة المسيحيين، ورغبة الكثير من الباقين منهم في الهجرة، وهذا ما تقصاه الإستبيان عبر سؤالين: ما الذي يجعلك تفكر في الهجرة؟ وما الذي سيجعلك تعدل عن قرارك؟ 

الأوضاع السياسية تقف في مقدمة الأساب وراء هجرة المسيحيين من العراق، إذ يربط الكثيرون منهم بقاءه في البلاد بتحسنها كحل وحيد للعدول عن الهجرة. ولكن لماذا تشكل الاوضاع السياسية هذه الاهمية بالنسبة للمسيحيين؟

العديد ممن تواصلت معهم معدة التحقيق، اجمعوا في إجاباتهم، بما يفيد أن الأوضاع السياسية تشكل منظومة يرتبط بها الإستقرار الاداري والتطور الخدمي والأمني والاقتصادي،  وتحسنها يعني ضمان كل ذلك.  

يقول "ا. ج" (29 سنة) من قره قوش، بأنه يسمع بمصطلح الأوضاع السياسية منذ أن كان طفلاً والى الوقت الحالي، لذا فهو يعتقد بأن كل شيء في العراق مرتبط ارتباطا وثيقا بهذا الجانب ومتى تحسن واستقر تحسنت أوضاع العراقيين عامة. 

يعلق النائب السابق في البرلمان العراقي جوزيف صليوا، على الاوضاع السياسية للمسيحيين بوجه الخصوص، قائلا: "لا وجود لتمثيل مسيحي كلداني - سرياني - آشوري في العراق وفي الإقليم، على الرغم من وجود كوتا (حصة) لهم، لكنها لا تمثل المسيحيين بشكل حقيقي، وإنما تمثل أحزاب السلطة في الحكومتين في بغداد وكردستان العراق على حد سواء".

ويضيف:"هم يجلبون شخصيات هي عبارة عن دمى، أسماؤهم مسيحية، وديانتهم مسيحية، ولكن أجنداتهم تتبع أجندات تلك الأحزاب السلطوية" على حد تعبيره.

ويتابع:"الغريب أن رموز السلطات اليوم كانوا يعانون من معادلة التمثيل الشكلي حين كانوا في المعارضة قبل 2003، لكنهم اليوم يعاملون المسيحيين بالطريقة نفسها، بجلب أشخاص ليجعلوا منهم أدوات يضربون كينونة الوجود الكلدو آشوري - السرياني المسيحي، ويكونون اليد الضاربة بيد أصحاب السلطتين في بغداد والإقليم، وبأسم مقاعد الكوتا المسيحية".

ويعرب عن قناعته بأن تلك السياسة نجم عنها غياب للتمثيل المسيحي الحقيقي "وما من حماية للكوتا التي وضعت على أنها تمييز إيجابي، وقد طرحنا آليات لمعالجة ذلك، ولكن لم يتم قبولها حتى هذه اللحظة".

ماتحدث به صليوا، يكاد يتكرر في أي حوار بهذا الشأن مع المسيحيين في سهل نينوى، بحسب مدون وناشط مسيحي فضل الاشارة الى اسمه بـ (ب. ف) فهو يقول ان المجتمع المسيحي "قلق على ضعف تطبيق القانون، وبروز توجهات دينية غير مدنية للقوى الحاكمة في الدولة".

ويضيف:"المسيحي متخوف من الصراعات السياسية والأمنية في ظل ضعف أجهزة الدولة ومع عدم وجود سلاح يحمي المسيحيين اسوة بباقي المكونات، كما يشكو من عدم حصوله على حقوق متساوية مع باقي المكونات في البلاد كما يفرض الدستور".

الاستبيان، ضم سؤالين آخرين لفهم إذا كان الوضع الحالي يؤثر على وجود الاقليات الدينية ومن بينها المسيحيين، فضلا عن إجراءات الحكومة لحمايتهم:

الاجابات أظهرت أن 65 مشاركا في الاستبيان، يعتقدون بأن الحكومة لاتبذل جهودا كافية ولا تحمي التراث الثقافي والديني المسيحي، بما في ذلك المواقع التاريخية والاثرية، إذ توجد محاولات لتوسعة التصميم الاساسي لمدينة الموصل على حساب بلدات الشبك والمسيحيين في سهل نينوى.

وتبدي قيادات سياسية مسيحية، قلقها من حدوث تغيير ديموغرافي يكون على حسابهم في بعض مناطق نينوى، مما يعني تهميشهم بناء على قلة اعدادهم في المنطقة، ومحو هويتهم الثقافية في المستقبل.

كما ان اي توسع في حدود الموصل على حساب مناطق المكونات الصغيرة سيزيد من مخاوفهم الأمنية، خاصة في ظل التوترات الطائفية المستمرة، فالتوسعة قد تؤدي الى تسهيل دخول جماعات مسلحة أو متطرفة الى مناطقهم.

ومع أن الحكومة عملت على ترسيخ الاستقرار والأمن في كل مناطق نينوى ومنع عودة الفصائل الارهابية من خلال ادامة العمليات الأمنية عقب تحرير الموصل ومحيطها من تنظيم داعش، الا ان عدداً كبيراً من المسيحيين يرون أن هذه الجهود غير كافية وأن مناطقهم غير مستقرة بشكل تام. 

يؤكد العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية، لويس مرقوس أيوب، أن المخاوف لدى مسيحيي الموصل الذين تركوها نازحين او مهاجرين، هي أكبر من مخاوف المسيحيين في سهل نينوى "كونهم شهدوا تطرف واستعباد داعش لهم وتسليب أموالهم، فاحدث كل ذلك فيهم ردة فعل بفقدان الثقة بالسلطة".

أما السبب الثاني الذي يسوقه فهو:"عدم وجود قوانين تحمي المكون المسيحي وتعطي لأفراده الحق كمواطنين من الدرجة الاولى حالهم حال المواطنين الآخرين، فالأقليات في العراق مواطنون من الدرجة الثانية ويوجد تمييز يمارس ضدهم ولاتعطى اليهم الحقوق في الوظائف والدرجات الخاصة في مركز محافظة نينوى".

ويضرب على ذلك مثالاً:" هيكلية الإدارة في محافظة نينوى تتشكل من محافظ ونائبين وعدد من المستشارين   والمعاونين، لكننا لا نجد في هذه الهيكلية أية شخصية من المكون المسيحي".  

أما بالنسبة للاعمار، فيعتقد بأن الدور الحكومي صغير في هذا المجال، وان الجهود المبذولة في بناء وإعادة اعمار المنازل والمتاجر التي دمرها داعش او دمرت خلال حرب التحرير منه، قد بذلت في غالبها من قبل المنظمات والمؤسسات والجمعيات الخيرية. ويتابع "لذلك يرى الكثير من المسيحيين أن الدعم الحكومي للمكون المسيحي ضعيف ولا يتعدى الشعارات".

ويتابع:"هم يستدلون في ذلك على وقائع، منها التعويضات المخصصة للعائدين بعد تحرير مناطقهم، فهي ومنذ أكثر من سبع سنوات على عودة البعض لم تمنح اليهم، وحتى الذين استلموها، كانت مخيبة بالنسبة اليهم، فلم تكن توازي خساراتهم المادية الكبيرة".

 

موقف الكنيسة من الهجرة

مريم (35 سنة) أم لثلاثة أطفال، كانت تعيش في الموصل قبل نزوحها معهم إلى محافظة دهوك بعد سيطرة داعش على نينوى، هي لفترة كانت تفكر في الهجرة الى استراليا، حيث يعيش عدد من اقاربها، لكن مع تدخل الكنيسة المحلية التي قدمت لعائلتها الدعم والمساعدة اللازمة، قررت مريم البقاء في العراق، وفقاً لما تقول.

الكنيسة وفرت لها مسكناً مؤقتاً وساعدت أطفالها على الالتحاق بالمدارس، وبعد تحرير الموصل بالكامل سنة 2017، عادت الى الموصل، وبدأت بالمشاركة في انشطة الكنيسة لاعادة بناء المجتمع وتشجيع المسيحيين على البقاء في مناطقهم.

الاستبيان، طرح سؤالاً محدداً عن دور الكنيسة من الهجرة، وقد اظهرت النتائج تنوعا في الآراء والمواقف:

 

52 شخصاً أي 40.6% (الجزء الاكبر من المشاركين) يرون بأن الكنيسة لاتشجع على الهجرة. لأسباب عدة، كالحفاظ على الهوية الدينية والثقافية، إذ تعد نينوى موطنا تاريخيا للمسيحين وتضم مواقع دينية وأثرية مهمة شاخصة منذ قرون.

والكنائس المسيحية بشكل عام، ترى أن من واجبها تشجيع المسيحيين على التشبث بأرضهم ومعارضة هجرتهم، وهي وتقدم ما تستطيع من خدمات لضمان بقائهم، كونها تنظر الى الهجرة كتهديد للوجود المسيحي في العراق.

يقول (ث . م) (66 سنة) الذي طلب الإشارة الى أسمه بهذين الحرفين، وهو مدير مشروع تابع لمنظمة إنسانية في قضاء الحمدانية، ان الكنيسة لا تشجع على الهجرة بل "تحاول بكل جهدها توفير خدمات ومساعدات للحفاظ على وجود المسيحيين في هذه المنطقة".

ويرى بان تشجيع الكنيسة للمسيحيين على البقاء يساهم في "تعزيز الروابط الاجتماعية والتضامن بين افراد المجتمع مما يساعد في بناء مجتمعات قوية ومستقرة"، ويقول بأن الكنيسة في سبيل ذلك تسعى لتوفير المساعدات الانسانية وتقديم المشاريع التنموية التي تساعد في تحسين اوضاع المسيحيين الاقتصادية والاجتماعية.

ويضيف:"الى جانب ذلك الدور، تقدم الدعم الروحي والنفسي للمسيحيين للمساعدة على تجاوز الصعوبات والتحديات التي يواجهونها، مما يعزز من قدرتهم على البقاء في موطنهم بغرس الأمل في نفوسهم بمستقبل أفضل للمجتمع المسيحي".

مسيحيون آخرون مقربون من رجال دين مسيحيين، تحدثوا عن موقف الكنيسة بشرط عدم ذكر اسمائهم، يقول أحدهم وهو موظف في العقد السادس من عمره، ان الكنيسة تشجع المسيحيين على البقاء "للمحافظة على التوازن الديموغرافي"، فالهجرة تعني تركهم لأراضيهم التي قد تصبح ملكاً لمكونات أخرى عند مغادرتهم مناطقهم، لذلك ترفض الكنيسة "شراء وبيع أراضي المسيحيين في نينوى".

وتمارس الكنيسة من خلال مكانتها دورا في منع فتح باب الهجرة الواسعة للمسيحيين وتنبه لخطورة ذلك، ومن جانب آخر هي تستثمر علاقاتها وتأثيرها لزيادة الدعم الدولي من مساعدات انسانية وغيرها، بالاتجاه الذي يشجع المسيحيين على البقاء في العراق.

لكن هناك جانب آخر يتعلق باستفادة الكنيسة نفسها من وقف هجرة المسيحيين في سهل نينوى وباقي مناطق انتشارهم، فذلك يعني بقاء قوة حضورها الديني، بينما الهجرة تعني قلة اعداد المتواجدين في الكنائس خلال الأنشطة الدينية والاحتفالات، وبالتالي تراجع الحاجة للقساوسة والمطارنة بما يحمله ذلك من تأثير سلبي على ادارة شؤون الكنيسة، فيتراجع تاثيرها الديني والاجتماعي. 

ويبدي "س. ك" وهو مسيحي من مدينة قره قوش يبلغ من العمر 45 سنة، قناعة تامة، من أن موقف الكنيسة من الهجرة، مبني على محاولة الحفاظ على مواردها من الإنخفاض، وهو ما سيحصل في حال "تناقصت أعداد المؤمنين"، فكلما زاد عددهم كلما زادت التبرعات "وقلتها تعني التأثير على قدرتها في تقديم الخدمات وصيانة المباني الدينية وتوسيع أنشطتها ومشاريعها التنموية".

ويرى الأب (أ. س) وهو رجل دين مسيحي من الحمدانية يبلغ من العمر 44 سنة، طلب الأشارة الى اسمه بالحرفين الأوليين فقط، أن "الكنيسة لا تشجع على الهجرة بكل أنواعها لأنها تعني انهيارها". يصمت للحظات ثم يتابع:"لابد من الاهتمام بالبشر قبل الحجر". 

بالعودة إلى نتائج الاستبيان بهذا الخصوص نجد بأن 45 شخصاً أجابوا بأنهم لايعرفون موقف الكنيسة من الهجرة، وهذا يؤشر حاجة الأخيرة إلى تعزير التوعية بشأن موقفها واجراءتها لدعم المجتمعات المحلية. وهنالك من أكد معرفته بدورها لكنه يتحفظ عن الإجابة. ويظهر ذلك تردداً أو حذراً من مناقشة الموضوع لحساسيته بوجود من يعتقد ان الكنيسة برفضها للهجرة تقف ضد خيار الكثير من المسيحيين.

 

بينما قال تسعة ممن اجابوا على السؤال، أن الكنيسة تشجع على الهجرة، وهذه الفئة الصغيرة ربما تعكس تجارب فردية.

بالنسبة للكنيسة، موقفها الرسمي واضح وهو رفض الهجرة، إذ حذر البطريرك مار لويس ساكو، من وقوع ماوصفها بـ "موجة هجرة مسيحية" بسبب تصاعد الازمات واحتدام الصراعات بنحو عشوائي ومثير للقلق.

وقال ساكو في مقال نشرته هيئة اعلام البطريركية على موقعها الرسمي (مار أديّ) أن هنالك حاليا 1200 عائلة مسيحية مهاجرة في تركيا، و1000  في الاردن و2500 في لبنان، وأوضح :"الهجرة ليست بطراً، بل هي ضرورية أحيانا لإنقاذ الحياة أمام تهديد موحش وخطر محدق. إنني أقصد هنا ظاهرة الهجرة الجماعية".

وذكر البطريرك، أن “الهجرة سابقاً كانت تحدث داخل البلد الواحد، اما الان فقد غدت ظاهرة عالميّة، تجعل الانسان يترك موطنه الاصلي، قالعاً جذورَه، راحلاً الى بلد آخر لا يعرفه، ولا ينتمي اليه. يتخلى المهاجر عن جنسيته وأحبته (أحيانا عن والديه المسنين)، وذكرياته، مفقرا ومضعفا من تبقى، ليبدأ بإعادة صياغة حياته وترتيبها، والتأقلم مع وضعه الجديد الذي يختلف عما ألفه، ناهيك عن البعد عن الأهل والشعور القاسي بالغربة، وطول فترة الانتظار في دول الجوار، وغياب فرص العمل، وما يتحمله من تكاليف باهضة لتأمين الحد الأدنى من مستلزمات المعيشة".

وأوضح بنحو قاطع، أن "قرار البقاء أو المغادرة يعد قراراً شخصياً، عائلياً، تاريخياً ومصيريّاً، يجب أن يأتي مدروسا من كل الجوانب، فعلى المهاجر أن يدرك أنه ليس في رحلة الى الجنة، بل أنه سيواجه عدة تحديات وصعوبات من نوع آخر، ربما ستكون أقسى، خصوصا اختلال الحريّة".

ويضيف بأن وجود المسيحيين في العراق تاريخي، فهم سكانه الاصليون، ولكن الرغم من "كل المعاناة والضيق والأزمات المتراكمة، يجب الا تدفع الظروف الصعبة المسيحيين الى الاستسلام أو الهجرة، بل على العكس ينبغي عليهم أن يتشبثوا بارضهم وتاريخهم وايمانهم، تمثلا بأجدادهم وآبائهم وقديسيهم، ونحن كرعاة نتفهم ظروفهم وقلقهم وخوفهم من المستقبل، لكن هذا يشمل كل العراقيين. وسنبذل كل ما في وسعنا للوقوف الى جانبهم وخدمتهم والدفاع عن حقوقهم وحمايتها".

 

ودعا ساكو الحكومة العراقية الاتحادية وحكومة اقليم كردستان، إلى الاهتمام ببلدات سهل نينوى وبلدات اقليم كردستان المسيحية من خلال "ترسيخ المواطنة، وتطبيق القانون والعدالة، وتوفير الحقوق المدنية التي تساوي بين الجميع، وتوفير الخدمات وفرص العمل، والتعويض عما فقدوه بسبب داعش وغيرها من الحروب الطائفية، انهم يهاجرون بحثا عن مستوى أفضل للعيش بأمان وكرامة وحرية.، لذا هم بحاجة الى تطمينات حكومية تشجعهم على البقاء والتواصل مع مواطنيهم".

 

الى أين الهجرة؟ وهل من عودة؟

واذا كان الخيار بالنسبة لنحو نصف مسيحيي العراق هو الهجرة، فالى اين يفضلون ان يهاجروا، طرح الاستبيان هذا السؤال:

 

النسبة الأكبر من المشاركين في الرد، يفضلون الهجرة الى استراليا، ويعدونها الخيار الأفضل. يرجع ذلك الى عدة أسباب، أوردها أحد المشاركين بالقول:"الاستقرار والأمان الكبيرين بوجود دولة تؤمن بحقوق الانسان والحريات وسيادة القانون، وفرصة الاندماج السريع كون المجتمع بطبيعته مجتمع مهاجرين، الى جانب القوة الاقتصادية وتوفر فرص العمل كونه سبباً رئيسياً في التفكير بذلك البلد". 

ويضيف عليها كذلك "وجود جالية عراقية مسيحية كبيرة، تشكل عامل مشجع، فهي ستشعرهم بقدر أقل من الغربة".

ولم يجد عدد من المشاركين في الاستبيان فرقاً في المكان الذي سيهاجرون إليه، مادامت الأوضاع هناك مختلفة عما هي عليه في العراق.

وبشأن سؤال وجه للمشاركين عن تفكيرهم بالعودة بعد الهجرة، جاءت النتائج كالتالي:

 

67 شخصاً (52.3%) أجابوا بأنهم لا يعرفون، وهو ما يعكس "حالة التردد والشك بامكانية تحسن اوضاع البلد مستقبلا في ظل الصراعات السياسية والفوضى والفساد السائد فيه" كما يقول نبيل باسم، المسيحي النازح من نينوى الى اربيل.

في معرض إجابته عن رؤيته لسبل وقف الهجرة المسيحية الى الخارج، يقول رجل الدين (أ.س) من الحمدانية، ان "الاستقرار الأمني يعد العامل الأبرز للحيلولة دون الهجرة" وان ذلك يتحقق بوجود دولة قوية مستقرة يسود فيها القانون.

إلى جانب ذلك يرى أن اعادة بناء البنى التحتية وتوفير الخدمات وتقوية الاقتصاد وتأمين فرص العمل للشباب ومنحهم القروض والمنح ليفتحوا بها مشاريع صغيرة "ستعزز جميعا من وجود المكون المسيحي في العراق". 

رجل الدين، الذي شهد سنوات الفقر في ظل العقوبات الدولية، وبعدها التدهور الأمني نتيجة الصراع الداخلي وعمليات القتل الواسعة على يد الجماعات الارهابية، يقر بصعوبة الوضع في العراق، وان هناك مخاوفا حقيقية بشأن "مستقبل الوجود المسيحي فيه"، لكنه يتفق مع رأي الكنيسة بأن البقاء قرار "شخصي وروحي". ويقول:"جذورنا، وكنائسنا هنا، وأشعر أن من واجبي أن أكون جزءاً مساهما في إعادة بناء المجتمع بعد كل ما مر به".

يصمت للحظات قبل أن يضيف:"برأيي الشخصي، فإن الهجرة ضياع للهوية، لأننا نترك عندها أرض الآباء والأجداد، وهم مروا بنفس ظروفنا لكنهم تجاوزوها بحبهم لأرضهم".

  1. غالبية الذين ادلوا بشهاداتهم طلبوا إخفاء أسمائهم الأصلية، لأسباب خاصة. 
  2. أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ضمن مشروع "الصحافة الاستقصائية للكشف والمتابعة".