آخر الأخبار
السامرائي يشيد بكلمة السوداني امام الأمم المتحدة: تليق بالعراق وتاريخه ومكانته الدولية رغم محاولات التهدئة.. تقرير امريكي يتحدث عن رغبة إسرائيلية "حقيقية" بغزو لبنان مشاريع غير مجدية وأخرى متلكئة.. مياه نهر الزاب الملوثة مصدر الحياة والموت لسكان الناحية المنسية كلمة السوداني امام الجمعية العامة للأمم المتحدة "لا علاقة للأزمة اللبنانية".. مختص يوضح أسباب عودة ارتفاع الدولار في العراق

النجف محاصرة بمخاطر نفاياتها.. مكبات ومطامر تخالف المتطلبات البيئية وتهدد الصحة العامة

محليات | 3-06-2024, 22:35 |

+A -A

بغداد اليوم -  النجف

في ساعة مبكرة من صباح كل يوم، تخرج فاطمة (7 سنوات) من منطقة البراكية الواقعة شمال شرقي قضاء الكوفة بمحافظة النجف جنوب بغداد، ترافق شقيقيها الأكبر منها (عمار وصادق) لنبش أكوام النفايات في ذات المنطقة أو مناطق أخرى أبعد لإيجاد ما يصلح بيعه من مواد معدنية وبلاستيكية.

على الرغم من شحوب ملامح وجهها والهزال البادي على جسدها، إلا انها تتحرك بخفة ورشاقة تجاري بهما شقيقيها، كأنها داخلة في لعبة دون أن تعلم بأنهم مع عشرات آخرين مثلها من الأطفال العاملين في مكبات النفايات، معرضون لمخاطر صحية كبيرة. 

"زوجي طريح الفراش منذ أكثر من سنة، وليس لدي معيل الآن سواهم"، هذا ما تقوله أم فاطمة مبررة سماحها لأبنائها الثلاثة بأن ينبشوا النفايات بدلاً من التواجد في المدرسة. وتضيف: "أخرجت الولدين من الابتدائية في السنة الماضية عندما اصيب والدهم بالشلل، ومع فقرنا هذا، لا أعتقد بان فاطمة ستذهب الى المدرسة في العام المقبل كما كان مقرراً".

 

والنبش في المكبات على طرقات الشوارع والأزقة كما في المزابل، عمل شاق وخطر صحياً يضطر للجوء اليه أطفال ونساء آلاف الأسر العراقية التي تنعدم مصادر دخلها، خاصة عند وفاة الأب المعيل او اصابته بمرض يمنعه من العمل، في حين لا تكفي مبالغ الرعاية الاجتماعية التي تحصل عليها عادة تلك الأسر في تأمين الحد الأدنى من متطلباتها المعيشية. 

تقول فاطمة بشيء من الحماسة، بأنهم يجنون في اليوم الواحد بحدود خمسة آلاف دينار (3.8 دولار)، تفرد أصابع يدها اليمنى أمامها في إشارة إلى العدد، ثم تفكر قليلاً قبل أن تفرد أصابع اليد الأخرى وتقول غير متأكدة وهي تنظر إلى اصابعها:"أو ربما أكثر".

تعلق الأم على ذلك بقولها:"ما يحصلون عليه لا يسد احتياجاتنا، هنالك ايجار المنزل ودواء والدهم وعلاجه، والأكل...". تقاطعها فاطمة "لانشتري لحم أو دجاج، فقط خضراوات وخبز". تلفها الأم بذراعها وتؤيدها بكلمات مخنوقة:"نعم هذا صحيح نادراً ما يأكلون اللحم".

جولة صغيرة في المناطق المخصصة لجمع النفايات في النجف، وهي بغالبيتها إما محطات وسطية للبلدية أو عشوائية، كافية لمقابلة كثيرين في مثل عمر فاطمة وشقيقيها، يشتركون جميعهم في شيء واحد هو الفقر المدقع، ووجودهم هناك هي محاولة للتخفيف من وطأته على عائلاتهم.

تبلغ مساحة النجف ( 28 824 كم مربع) ويسكنها نحو ثلاثة ملايين نسمة، ووفقاً لتقديرات البلدية فأن هنالك ما يتراوح بين 1200 إلى 1500 طناً من النفايات تطرحها 135 ألف وحدة سكنية ماعدا الوحدات التجارية، ويتم جمعها ونقلها إلى أماكن الطمر التي تقول دائرة البيئة أنها غير صحية وغير مطابقة للمعايير البيئية، وبعضها منتشر بنحو عشوائي داخل مركز النجف والبلدات التابعة لها.

بينما تؤكد دائرة صحة النجف، أن مواقع تراكم النفايات تلك، مصدر للأمراض التي تنقل عبر الانبعاثات الغازية أو القوارض والحشرات والكلاب السائبة، فضلاً عما تسببه من تلوث في التربة وحتى المياه. 

 البلدية تخالف الشروط البيئية !

مدير دائرة بيئة النجف، جمال عبد زيد شلاكه، يتهم دائرة البلدية بمخالفتها لشروط السلامة البيئية وأنها تقف وراء تراكم النفايات، وأن دائرته وجهت إنذارات عديدة إليها لغلق محطات النفايات غير المرخصة "لكن الغلق يكون شكلياً في العادة، ولا ينفذ بنحو فعلي، ولهذا تم فرض غرامات مالية على بلدية النجف وصلت مبالغها إلى مئات ملايين الدنانير". 

وعن مواقع الطمر الصحي في المحافظة، يقول:"بالمفهوم المتعارف عليه عالمياً لا توجد مواقع طمر صحي في النجف، بل وحتى في باقي أنحاء العراق، وما موجود هي مجموعة مكبات عشوائية غير صحية مخالفة لتعليمات البيئة فضلا عن مخالفتها لتعليمات البلدية والصحة".

ويلفت إلى أن بلدية النجف تنقل النفايات إلى "محطات وسطية"، وأن "هذه المحطات لا تعد نظامية وغير ممنوحة لها تراخيص من البيئة، باستثناء واحدة فقط هي محطة شمال النجف، وما  يتم رفعه من النفايات قليل مقارنة بحجم النفايات المتكدسة مما يسبب تراكمات للنفايات قد تصل الى سنوات في هذه المحطات وهذا ما ينذر بكارثة بيئية تتكرر دون حل جذري لها".

ويعدد شلاكه، مكبات النفايات العشوائية المنتشرة في محافظة النجف التي يرى بأنها مخالفة لشروط السلامة البيئية :"مكب عشوائي نهاية الشارع القوسي للمجمعات السكنية، وآخر في نهاية الحي الصناعي، ومكب عشوائي في داخل الحي الصناعي مقابل محطة شمال النجف للكهرباء، ومكب نفايات نهاية حي الرحمة، وآخر في منطقة معامل الجص طريق كربلاء عامود 110".

 

 ويضيف:"وهنالك واحدٌ قرب تقاطع كوفة – عباسية ومكب عشوائي في المنطقة المجاورة لحدود العباسية ومثله بالقرب من مجمع أبو تراب السكني، ومحطة وسطية في حي الحرفيين، ومكب عشوائي خلف الحي الصناعي، ومكب للنفايات والحيوانات الميتة على جانبي الطريق الحولي قرب مجسر الرضوية".

ووفقاً لمدير البيئة، فأن هنالك ما يزيد عن 1250 طناً من النفايات الصلبة يتم طرحها في المحافظة يومياً. ومع تأخر رفع النفايات في بعض المناطق يلجأ بعض الأهالي في العديد من المناطق إلى حرقها ما يخلف أضرار بيئية "ويسبب حالات اختناق للساكنين القريبين".

ويؤكد بأن القانون يمنع "إلقاء أو معالجة أو حرق نفايات البلدية الصلبة في المناطق السكنية والتجارية والصناعية والزراعية أو بالقرب منها، فالحرق يجب ان يتم في محارق خاصة تشيد بترخيص من السلطات المختصة".

ويقول شلاكه ان المحددات البيئية تفرض ابعاد المحطة الوسطية للنفايات مسافة لا تقل عن 250 متراً عن أقرب وحدة سكنية، ومسافة لا تقل عن 100 متر عن اقرب شارع عام، لكن هذا لا يتم مراعاته، وان دائرته طالبت الجهات المعنية بإنشاء موقع طمر صحي نظامي في المحافظة وحددت موقعاً له خارج مدينة النجف "إلا أن البلدية رفضته بسبب بعد الموقع المقترح عن مركز المدينة بنحو يجعل نقل النفايات اليه أمراً صعباً وخارجاً عن نطاق إمكانياتها"على حد قوله.

وينص قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لعام 2009 على حماية وتحسين البيئة من خلال "ازالة ومعالجة الضرر الملحق بالبيئة الموجود فيها أو الذي يطرأ عليها، والحفاظ على الصحة العامة والموارد الطبيعية والتنوع الاحيائي والتراث الثقافي والطبيعي بالتعاون مع الجهات المختصة بما يضمن التنمية المستدامة"، وهو ما لا يلتزم به، وفقا لبيئة النجف.

وتحدد بيئة النجف جملة أسباب تؤدي إلى تراكم النفايات في مختلف المواقع، على رأسها الزحف السكاني إلى المحافظة، مبينة ان وزارة التخطيط لا تأخذ بعين الاعتبار أن النجف من المحافظات التي تكثر اليها الهجرة، فمازال التخصيص المالي يعتمد على احصائيات السكان المسجلين في البطاقة التموينية قبل سنوات، والتي تحدد سكان النجف بمليون و600 نسمة، بينما اليوم النجف يسكنها ما يقارب 3 ملايين.

وينبه مسؤولون في بيئة النجف الى أن تكدس النفايات الحاصل سيؤدي الى خلل في النظام البيئي ومن الممكن أن تتأثر عناصر البيئة من الماء والهواء والتربة بالتلوث، ما يؤدي الى ارتفاع درجات الحرارة وكثرة العواصف الترابية وتكرر مواسم الجفاف وانحسار الغطاء النباتي.

لمواجهة ذلك، اتخذت دائرة البيئة اجراءات ضد المؤسسات الحكومية المخالفة للمعايير البيئية في أنشطتها وفعالياتها، يضرب مدير الدائرة جمال شلاكه، بعض الأمثلة: "نفرض غرامات مالية على المستشفيات وأغلبها حكومية بسبب عدم فرزها للنفايات الطبية عن النفايات العادية، ونلاحظ ان مستشفيات القطاع الخاص أكثر التزاماً من هذه الناحية".

ويستدرك قائلاً: "من المفترض أن يتم اتلاف المخلفات الطبية بمحارق خاصة تقوم بمعالجة تامة لها، لكن حتى ان وجدت هذه المحارق فان عددها محدود ولا يكفي لاستيعاب كمية المخلفات"، مبينا أن "المخلفات الكيميائية والنظائر المشعة هي المخلفات الأكثر خطورة على صحة الانسان".

كما توجه بيئة النجف وباستمرار، بحسب شلاكه، إنذارات الى العيادات الاستشارية للأمراض الصدرية والتنفسية في مستشفى الحكيم العام التابع الى دائرة صحة النجف لرصد مخالفات تتمثل في "عدم وجود أماكن لجمع النفايات بشكل مؤقت ما يجعلها مرتع  للحيوانات، وهذه النفايات تصنف بأنها معدية، بالاضافة الى مخالفة عدم وجود سجل خاص بالنفايات في تلك العيادات".

 البلدية تعبر عن عجزها

رداً على ما تورده دائرة البيئة من مخالفات، يقول مدير بلدية النجف عدي عبد الصاحب، ان عجلات النفايات (الكابسة) تجمع النفايات من الأحياء السكنية وتفرغها في محطات وسطية "لأنه من غير الممكن أن تقطع العجلة مسافة 35 كيلو متراً لرميها في الطمر الصحي الرئيسي بمنطقة بحر النجف (الجهة الغربية من مدينة النجف) خاصة مع قلة الآليات، لذلك يتم طرح ما في الكابسة بالمحطة الوسطية لتأتي شاحنات لاحقا لنقلها الى الطمر النهائي".


ويقدر كميات النفايات التي تجمع يومياً بأكثر من 1200 طن، وبواقع 3000 – 4000 متر مكعب:"واذا بقيت ليومين يحدث تكدس كبير ويمكن أن تغلق شوارع بسببها، وبلدية النجف لاتملك امكانيات آلية وبشرية كافية للتعامل مع هذا الكم الكبير".

وانتقد بدوره دائرة بيئة النجف:"اجراءات البيئة في فرض الغرامات المالية غير صحيحة ذلك ان كتب الإبلاغ عن الغرامات تصلنا بدون تبليغ مسبق، كما أن هناك غرامات تفرضها وليس للبلدية شأن فيها مثل نفوق الحيوانات اذ أن كتاب الغرامة يصلنا بعد أشهر من نفوق الحيوان".

ونفى تراكم النفايات لسنوات في المحطات الوسطية، بقوله:" البلدية قد تتأخر في نقل النفايات من المحطات الوسطية الى موقع الطمر لأيام بسبب تعطل الاليات أو عدم توفرها لكن بالنتيجة يتم طمر جميع النفايات، اذ تطمر البلدية بمعدل يومي 1250 طناً من النفايات".

ويوضح عبد الصاحب، أن هنالك محطتان تتبعان بلدية النجف، حاصلتان على موافقات بيئية وهما محطة حي الحرفيين في الجنوب الشرقي من مدينة النجف ومحطة أبو طالب شمالي النجف، ويتم نقل النفايات من هناك إلى موقع الطمر الصحي الرئيسي الذي يبعد عن أقرب نقطة للمدينة نحو 25 كم".

ويشكو من نقص العمال المخصصين لرفع النفايات ما يُصعب مهمتهم "وزارة المالية لا تسمح بتشغيل عمال جدد في البلدية تعويضاً عن العمال الذين يتركون العمل، الكثيرون تركوا العمل بسبب تخفيض رواتبهم وجعلها 179 الف دينار، بعد تثبيتهم على الملاك الدائم، بينما كانت رواتبهم وهم بصفة أجراء يوميين تصل الى 350 الف دينار". ويضيف إلى ذلك أن موازنات أعوام (2023 – 2024 – 2025) لا توجد فيها "فقرة لتشغيل عمال جدد".


ويُرجع أحد أسباب تراكم النفايات الى عدم امتلاك المواطن "للوعي الكافي". ويضرب مثالاً:"توجد أحياء في النجف تمر بها الكابسة تسع مرات في اليوم الواحد ورغم ذلك هذه الأحياء ليست نظيفة، لأن المواطن يرمي النفايات على الأرض بعد ذهاب الكابسة، ولايكلف نفسه وضعها في كيس أو في الحاوية المخصصة".

وفيما يتعلق بتراكم النفايات بأطراف المدينة ومناطقها العشوائية، يقول:"قانون البلدية يمنع دائرتنا من القيام بتنظيف الأحياء المتجاوزة على أراضي الدولة كحي الرحمة والحي الفاصل بين قرية الغدير وحي العسكري وحي المزارع والتي تقع شمالي النجف، أما في الجهة الغربية يوجد حي الشوافع للمتجاوزين في منطقة بحر النجف، وحي الشيشان في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة، واذا أردنا تنظيف هذه الأحياء نحتاج زيادة بعدد العمال والآليات".

لذلك تعتمد الأحياء المتجاوزة على المتعهدين الأهليين، الذين يساهمون في تقليل مشكلة تكدس النفايات في تلك الأحياء، لكنهم في ذات الوقت يتسببون في "زيادة حجم النفايات بالمحطات الوسطية غير المرخصة والقريبة من الوحدات السكنية"، وفق بلدية النجف.

وعن إجراءاته حيال ذلك يقول عبد الصاحب:" طالبنا بأن تأخذ دوريات الشرطة المحلية دورها في محاسبة هؤلاء المتعهدين ومنع رمي النفايات بنحو عشوائي".

مشكلة تكدس النفايات في النجف، بما تحمله من مخاطر صحية، دفعت بعضو مجلس النواب عن النجف هادي السلامي، الى اقامة دعوى قضائية ضد بلدية النجف كون الأخيرة "تتسبب بتكدس النفايات لمدة طويلة" كما يقول النائب، مضيفا "هنالك فسادٌ ماليٌ وإداريٌ كبيرين في بلدية النجف، وهو السبب الأول في ما تعانيه النجف اليوم من تكدس للنفايات".

وينفي السلامي بذلك أن يكون نقص الآليات والعمال سبباً للمشكلة، ويقول مكررا:"بل هو الفساد،  فبلدية النجف تعد من أكثر دوائر الدولة فساداً في العراق وبالتالي انعكس الفساد على الأداء"، حسب تعبيره.

وكان السلامي قد وجه كتاباً إلى رئاسة مجلس الوزراء في أيلول/سبتمبر 2022 أتهم فيه بلدية النجف بالتقصير والفساد وتعريض العمال لمخاطر صحية والتسبب بتراكم النفايات والتعمد في عدم وضع حاويات نفايات كبيرة في المناطق السكنية.



 

وقد شكلت على ضوء ذلك، لجنة بمجلس الوزراء للتحقيق في عمل دائرة بلدية النجف، يقول السلامي أنها كشفت "الكثير من المخالفات وما يزال عمل اللجنة قائما". في وقت فتحت هيئة النزاهة قضية جزائية بشأنها بالرقم والتأريخ (637ق 10 /2022) وباشرت إجراءاتها التحقيقية. 

كما وجه النائب السلامي في 10/10/2023 كتاباً إلى لجنة الأقاليم النيابية ومحافظة النجف، طالب فيه بتغيير مدير بلدية النجف بسبب "سوء الإدارة وعدم السيطرة وانتشار القمامة والنفايات، ووجود المكبات ومناطق الطمر غير النظامية، والحرائق المستمر فيها والتي ينتج عنها غازات سامة ومسرطنة تهدد الصحة العامة".

من جانبها رفضت لجنة الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، تذرع بلدية النجف بتعطل الآليات كمبرر لتراكم النفايات، ووجهت في 22/11/2023 كتابا إلى البلدية حمل توقيع رئيس اللجنة خالد حسن صالح السامرائي، جاء فيه:"بإمكانكم إجراء الصيانة وتصليح الآليات الخاصة بالنظافة بالتعاون مع المحافظة وضمن الضوابط والتعليمات الخاصة بآلية تصليح آلاليات".

ودعت اللجنة في كتابها بلدية النجف الى إتخاذ الإجراءات السريعة لرفع النفايات، محذرةً: "بخلافه سوف تتحملون كافة التبعات القانونية".


 

 

التحقيقات لم تغير شيئا

بعد أكثر من ستة أشهر على تحذيرات لجنة الأقاليم، وما يزيد على العام على تحركات النائب السلامي وهيئة النزاهة، لا يبدو لمحمد الخالدي (35 سنة) الذي يسكن في الحي العسكري شمالي النجف، أن شيئا تغير على الأرض في الواقع الخدمي بما فيه نظافة شوارع النجف ورفع ركام نفاياتها.

يقول الخالدي :"لا يبدو أن بلدية النجف قد تحملت أياً من التبعات، فمشكلة تكدس النفايات مازالت قائمة وهي تقلق الساكنين". ويضيف:"منطقتي من الأحياء الشعبية التي تعاني من سوء الخدمات البلدية، ولم يتغير واقعها. نعم الأهالي يتحملون جزءا من المسؤولية لأن النفايات ترمى في الشارع بدون أكياس، لكن هذا لا يعني أن المشكلة برمتها يتحملها المواطنون".

وينبه الى أن أغلب سكان الحي من محدودي الدخل ولا يمكن للجميع شراء أكياس النفايات وحاوياتها، داعيا البلدية الى توفيرها "لكي لا تتكدس النفايات في الساحات الفارغة وأمام المدارس والمستوصفات".

سوء الخدمات البلدية بما فيه فشل رفع النفايات، يتكرر في الأحياء التي تسكنها عوائل ميسورة الحال، كحي الفرات جنوبي النجف. تقول عذراء الساعدي (45 سنة) التي تسكن الحي "عجلة النفايات تأتي كل ثلاثة الى أربعة أيام، وهذا يسبب تكدس النفايات ويدفع بعض الأهالي الى رفع ما يتجمع أمام بيوتهم ورميه في أقرب ساحة فارغة".

وتشكو عذراء من نباشي النفايات، الذين يقومون بتمزيق الأكياس ونبش محتويات الحاويات المنزلية ثم تركها في الشارع، وهذا أمر يصعب على الأهالي السيطرة عليه، حسب قولها.

 

إنبعاثات ضارة

يحذر مختصون في البيئة من الآثار السلبية لتراكم النفايات في الشوارع وغياب المطامر الصحية على بيئة النجف وبالتالي صحة المواطنين فيها.

يقول الخبير البيئي صفاء المظفر، بأنه قام بقياس التلوث في منطقتين إحداهما تجمع فيها النفايات بالنجف، وأخرى خالية منها وفيها غطاء نباتي، وتأكد لديه ارتفاع نسبة غاز ثاني اوكسيد الكاربون وبنسبة تصل الى 1,8% بالمنطقة التي فيها نفايات، بينما كانت النسبة منخفضة جداً في المنطقة الخالية من النفايات والتي ضمت غطاءً نباتياً".

وأظهرت نتائج فحصه كذلك انخفاض نسبة الأوكسجين في مناطق تكدس النفايات وإرتفاع تراكيز غاز الميثان التي بلغت نسبتها 3% في حين أن المعيار العالمي يحدد النسبة بـ 2%، بينما كانت النسبة أقل في المناطق الخضراء.

ويؤكد المظفر أن النتيجة التي توصل إليها تؤشر لمشكلة حقيقية ينبغي معالجتها سريعا "فالتراكيز الملوثة ترتفع بنسبة 70- 80% مقارنة بالمناطق الخضراء التي لا تتعرض لملوثات البشر".

وتتضاعف كميات النفايات المتكدسة عشرات المرات، خلال المناسبات الدينية التي تشهد دخول ملايين الزائرين للمناطق المقدسة في النجف، ناهيك عن زيارة الأربعين السنوية. ما يشكل مصدر ضغط اضافي على البيئة يتطلب معالجات. 

ومع خلو محافظة النجف من مواقع "طمر صحي نظامية"، ينبه الخبير البيئي الى ان كل المحطات الوسطية للنفايات والرئيسية ومواقع الطمر الموجودة حالياً "غير آمنة بيئياً ومواقعها غير مدروسة".

ويقول ان مواقع طمر النفايات بالنجف كانت بعيدة عن الأحياء السكنية، قبل ان يحصل التوسع السكاني الكبير "لكن اليوم ومع بناء مجمعات سكنية عديدة أصبح موقع الطمر الشمالي قريباً من الدور السكنية، وأبناء تلك المناطق باتوا يتأثرون بأكاسيد النتروجين وأكاسيد الكبريت والرصاص فضلا عما يطرح من غاز الميثان".

وتؤكد دراسات لمتخصصين بجامعة الكوفة، أن ارتفاع درجات الحرارة في مناطق تجمع النفايات "تؤدي إلى تفاعل مادة الأسيتات التي تتحول الى غاز الميثان بوجود بخار الماء أو الرطوبة" وهذا يفسر انبعاث روائح كريهة من مكبات النفايات في أوقات الحر.

ووفقاً للدراسات ذاتها التي يشير إليها المظفر، فان كميات النفايات التي يطرحها الفرد الواحد يوميا بمحافظة النجف تقدر بـ (1,800 كغم – الى 2 كغم) وهي تعد مرتفعة مقارنة بالفترة ما قبل عام 2003، حيث كانت تقدر بـ(1,10 كغم) للفرد الواحد من المواد الصلبة.

ويحذر المظفر من عمليات الحرق المتكررة للنفايات في المناطق السكنية الجديدة "يتم حرقها بنحو دوري من قبل الأهالي للتخلص منها، ومع حركة الرياح تزداد المخاطر على الساكنين، لأن الحرق يولد غازات سامة أخطرها غاز الديوكسين الذي يوصف بالقاتل البرتقالي، لأن استنشاقه يسبب أمراضاً سرطانية وتشوهات خلقية لأجنة النساء الحوامل".


 

ويستدرك: "كما ان عملية الحرق تولد غازات مضرة بالرئة، ناهيك عن الغازات المنبعثة من حرق النفايات الطبية التي يكون معظمها مشعاً وخطيراً".

ووفقاً لتقارير طبية صادرة من شعبة الاحصاء بدائرة صحة النجف، تسجل المؤسسات الصحية في المحافظة حالات اختناق لأسباب متعددة من بينها حرق النفايات، وهو ما أكده مسؤولون جرى مقابلتهم.

 

مشاكل صحية للنباشة

يتعرض "نباشة" النفايات، الذين ينتظرون كل يوم عجلات البلدية في المحطات الوسطية حيث تُفرغ المخلفات، إلى العديد من الأمراض الجلدية والتنفسية بسبب ما يتعرضون له من بكتريا وفطريات وفايروسات، كما انهم ينقلون بعض الامراض لغيرهم عند الاختلاط.

لكن مختصين، مثل مظفر، يحذرون بشكل أكبر من النفايات الطبية التي تنتجها المؤسسات الصحية الحكومية والأهلية ويتخلصون منها بالطرق العادية لعدم وجود محارق أو إنها بدائية وغير خاضعة للمواصفات العالمية "بين تلك النفايات هناك كميات من الأدوية منتهية الصلاحية تحوي مواداً مشعة ومسرطنة".

ويقول مدير شعبة المراكز الصحية في النجف أحمد الشبلي، ان تكدس النفايات يؤدي الى انتشار القوارض والحشرات الضارة، وهي نواقل لأمراض مثل حبة بغداد واللشمانيات وأمراض جلدية أخرى "حتى بات من الضروري قيام الجهات المعنية برش المبيدات الخاصة في أجواء النجف للتخلص من الحشرات".

 

تدوير النفايات هو الحل

يرى مختصون بالبيئة، أن العراق متأخر في مجال التعامل مع النفايات بنحو آمن بيئياً، ويرون أن الحل يكمن في انشاء معامل لتدوير النفايات تسهم في التخلص منها بالمقام الأول وتحقيق فوائد أخرى كإنتاج الطاقة الكهربائية والأسمدة الى جانب تشغيل بعض الأيدي العاملة.

وذلك تحديدا ما طالب به النائب هادي السلامي، في كتاب موجه الى رئاسة الوزراء. ويقول :"هناك أرض جاهزة في منطقة بحر النجف ملك للبلدية، والأموال كذلك متوفرة لانشاء معمل لتدوير النفايات، نحتاج فقط الى قرار من مجلس الوزراء".

الخبير البيئي سلام أحمد، يقول مستندا إلى أرقام بلدية النجف التي تتحدث عن طرح 1500 طناً من النفايات يومياّ:"إذا ضربنا هذا الرقم بأيام السنة 365 فيكون لدينا ما مجموعه 534 ألف طن من النفايات سنويا".

"هذه كمية كبيرة جداً وليس من السهل التخلص منها" يقول أحمد. ومع تراكمها سنة بعد أخرى وتضاعفها بتضاعف السكان "ستتفاقم المشكلة ومعه التدهور البيئي".

وكانت هيئة إستثمار النجف، أعلنت في آب/اغسطس 2020 عن فرصة إستثمارية لإنشاء معمل لتدوير النفايات على مساحة 180 دونما، في منطقة عيون الشجيج، لكنها لم ترسو على أي شركة.

وذكر مستشار محافظ النجف لشؤون الإعمار عباس العليان حينها، ان مشروع تدوير النفايات لم ير النور لأن الشركات لم تجد فيه جدوى اقتصادية، واضاف أن عمليات التدوير "تحتاج إلى فرز النفايات، وأيدٍ عاملة، وزيادة الوعي لدى المواطنين بأهمية الفرز".

والسبب الثاني الذي ذكره العليان لعدم تنفيذ المشروع، تمثل "بعدم قدرة المستثمر على تحديد أسعار إنتاج الطاقة الكهربائية عن طريق المواد العضوية بعد تخميرها عن طريق النفايات المدورة، نتيجة عدم وجود بنود منظمة لهذه العملية، وبالتالي قد لا يحقق المشروع أية جدوى اقتصادية".

هيئة استثمار النجف عادت لتعلن في 15/6/2023 الفرصة ذاتها، ودعت المستثمرين الى تقديم طلباتهم مجدداً، بشروط منها:"اعتماد الأسس الصحيحة في اختيار التكييف للحفاظ على الطاقة - كفاءة الطاقة- واختيار مواد البناء التي تساعد في العزل الحراري". 

كما اشترطت "تحمل الجهة المستثمرة إزالة التجاوزات ودفع التعويضات المالية إن وجدت، فضلاً عن تحمل تكاليف التنقيب عن الآثار قبل البدء بتنفيذ المشروع، مع نصب كاميرات مراقبة عالية الدقة وسعة تخزين كبيرة، وإضافة منظومة للحرائق".

تلك الشروط وصفها مستثمرون بالتعجيزية، مشيرين الى أن النجف منطقة فيها آثار وفيها الكثير من التجاوزات، وأن تحميل الجهة المستثمرة تكاليف التنقيب وإزالة التجاوزات يعني عبئاً مالياً كبيراً، ولهذا لم تمنح الفرصة لغاية الآن لأي جهة، على الرغم من تكرر الإعلان.

 

مشاكل أخرى

في حي الحرفيين جنوبي شرق مدينة النجف، حيث توجد المحطة الوسطية للنفايات الأكبر في المحافظة بمساحة خمسة آلاف متر مربع، يتم القاء مخلفات بناء الدور السكنية الى جانب النفايات المنزلية ومخلفات المعامل، ما يشكل ضغطاً كبيراً على المحطة التي تتراكم فيها النفايات، لتخلق مشاكل هذه المرة لأصحاب المعامل.



يشكو عبد الصاحب، الذي يملك معملاً لإنتاج الألبان في المنطقة، من واقع المحطة ومحيطها "تجد النفايات حتى في الجزرات الوسطية، والجرذان تنتشر هناك فضلاً عن الكلاب السائبة، بينما الطريق المار بالمكب يسلكه الكثير من طلاب المدارس".

ويشير الى توقف الكثير من المعامل والمصانع قرب محطة النفايات عن العمل، بسبب مشاكل التسويق ولعدم توفر البيئة الصحية التي تشجع المستهلكين على شراء إنتاجهم "لم يجد أصحابها مع تكرر خسائرهم، غير ايقاف خطوط انتاجهم، ليبلغ عدد المعامل المغلقة أكثر من 14 معملاً، منها ما اختص بتعبئة المياه، وأخرى لانتاج الجبس، والمنظفات السائلة، والآثاث".

ويقول انه واحد من أصحاب المعامل القلائل التي تواصل العمل، رغم تكبده أيضا خسائر قدرها بـ70 مليون دينار(أكثر من 53 ألف دولار) على خلفية البيئة غير الصحية بالمنطقة ومع تجمع النفايات "فالزبائن لم يعد اقبالهم على المنطقة كالسابق".

يفكر قليلا قبل أن يتابع بشيء من اليأس:"إن لم يجدوا حلا لمشكلة تراكم النفايات، ومع ضعف الاقبال، سأضطر في النهاية مثل غيري إلى إغلاق معملي رغم انه مصدر رزقنا الوحيد، أنا والعمال هنا".

وسط محطات النفايات تلك، ومع عجز الدوائر البلدية عن معالجة المخلفات المتزايدة وتراكمها المستمر، وفي ظل فشل محاولات تدويرها، يحذر مختصون من تدهور بيئة النجف بما يشكل مصدر خطر متزايد على آلاف السكان القريبين من محطات التجميع ومواقع الحرق والطمر غير الصحي، مطالبين بحلول عاجلة لإنهاء "مصدر خطر صامت قد يكون قاتلا للبعض".

انجز التحقيق تحت اشراف شبكة "نيريج" ضمن مشروع الصحافة البيئية الذي تديره منظمة "أنترنيوز".