11 ألف عائلة في جحيم الانتظار
تحقيق يكشف "فضائع" عن المفقودين.. أهاليهم ضحايا "نصب" لسياسيين ورجال أمن ومحامين
سياسة | 31-03-2023, 17:34 |
بغداد اليوم-متابعة
فتح تحقيق مطوّل، ملف المفقودين والمغيبين قسرًا من العراقيين، خلال عمليات تحرير المحافظات العراقية من تنظيم "داعش" الارهابي، حيث استعرض التحقيق معاناة اهالي المفقودين ووقوعهم ضحية التلاعب السياسي والاهمال الحكومي لهذا الملف تمامًا، بالاضافة الى وقوعهم ضحية نصب واحتيال من قبل اشخاص في الجيش والشرطة والمؤسسات الحكومية ومحامين، يقومون بابتزاز الاهالي واخذ اموالا طائلة منهم وايهامهم بانهم يمتلكون معلومات عن ابنائهم المفقودين.
يتطرق التحقيق لقصة سعاد أحمد (63 سنة) التي تقضي ساعات من يومها في غرفة نوم ابنها المفقود (أمجد)، تتحدث إليه عبر صوره، وتتشمّم ثيابه، ثم تفترش سجادتها على الأرض لتصلي وترفع صوتها الباكي بالدعاء ليعود إليها وإلى زوجته وابنه الوحيد، وهي لا تغادر طقوسها تلك منذ نحو تسع سنوات.
أمجد كان منتسباً في الشرطة المحلية قبل سيطرة “داعش” على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، غادرها مع القوات الأمنية المنسحبة نحو أربيل، لكنه عاد إليها بعد أسابيع، مدفوعاً بشوقه الى طفله الرضيع وعائلته، وإثر تلقّي اتصالات من زملاء له كانوا في الموصل وأكدوا أن التنظيم أصدر عفواً عن أفراد الشرطة والجيش، وأن في وسعه العودة والعيش مع عائلته بسلام، بمجرد توقيعه على تعهد عرف بـ”التبرئة”.
وقّع أمجد في مقر للتنظيم، التعهد المطلوب بعدم التحاقه مجدداً بالشرطة، من دون أن يعلم هو و1599 غيره من أقرانه في الشرطة والجيش، أنهم كانوا ضحية خدعة كبيرة قام بها التنظيم الذي ألقى عناصره القبض عليهم في أواخر 2014 وما زالت مصائرهم مجهولة لغاية الآن.
رفضت الأم القيام بأي من إجراءات الحداد، بعد حصول زوجها في تشرين الثاني/ أكتوبر 2021 على قرار قضائي بموت أمجد حكماً، لغيابه أكثر من أربع سنوات، لتأمين راتب لزوجته وابنه، وأبقت أبواب الأمل مشرعة أمام معجزة عودته، لتقع في شباك نصابين تقاضوا من عائلته عشرات آلاف الدولارات لقاء معلومات غير صحيحة عن مكان وجوده.
تقول بصوت خافت: “ذات مرة محام، وبعدها واحد من عناصر الحشد الشعبي، ثم شخص قال إنه ضابط، زرعوا في أنفسنا الأمل، آخرهم أخبرنا بأن أمجد معتقل في الجنوب، وإذا دفعنا سيأخذوننا إليه، وفي كل مرة ندفع ولا نرى الشخص مرة أخرى”.
مع انقشاع دخان حرب تحرير محافظة نينوى من تنظيم “داعش” عام 2017، بدأت أصوات عائلات آلاف “المفقودين” ترتفع مطالبة السلطات العراقية وقوات التحالف الدولي بالإفصاح عن مصائر الذين اعتُقلوا في فترة حكم التنظيم.
فيما برزت أصوات أخرى تطالب بالكشف عن مصائر مئات “المختفين قسريا” الذين اعتقلتهم قوات الجيش والميليشيات بتهمة انتمائهم الى “داعش”، لتدخل عائلاتهم في دوامة البحث وحلقات الانتظار المميتة، وكذلك ضحية لشبكات احتيال تتاجر بمصائرهم ومعاناة أهاليهم.
ويشير التحقيق الى ان الحكومة تغافلت عن هذا الملف، او التقصي عن مصائرهم أو إنشاء قاعدة بيانات تضم أسماءهم ومواقع اختفائهم، واكتفت بالإعلان عن اكتشاف 97 مقبرة جماعية تضم رفات آلاف المدنيين ومنتسبي الجيش والشرطة العراقيين، غالبيتها العظمى لم تُفتح لغاية اليوم، ليبقى ذوو المفقودين على قيد الانتظار.
ويكشف تقرير للمرصد العراقي لحقوق الإنسان، عن وجود 11 ألف عائلة عراقية تبحث عن مفقوديها المختفين منذ العام 2014، فيما تتناقل مصادر نيابية وحكومية ومنظمات معنية بالملف، أخباراً عن وجود أكثر من 6000 مفقود في نينوى وحدها منذ ذلك التاريخ. وتكاد تجمع تلك المصادر على أن العدد أكبر بكثير، لكن عائلات بعض المفقودين لا ترغب في الإبلاغ عنهم نتيجة مخاوف من اتهامهم بالانتماء الى “داعش”.
انتظار حسم تلك الملفات له ثمنٌ باهظٌ بالنسبة الى الكثير من عائلات المفقودين، ففضلاً عن الضرر المعنوي البالغ، يعانون من مشكلات بتناقل التركة، بسبب عدم وجود جثة أو شهود يؤكدون الوفاة، ما يفرض على ذوي المفقود، تقديم طلب إثبات وفاة بعد مرور أربع سنوات من تقديم البلاغ بشأن غيابه وفقاً للقانون العراقي.
فقد أم اختفاء قسري؟
ويتطرق التقرير الى عدم وجود تعريف او تفريق بين الاختفاء القسري والفقد في العراق، حيث تعرف الأمم المتحدة الاختفاء القسري بأنه “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”.
وتقول كارمن فيلا كوينتانا، رئيسة لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري بعد ختام زيارة قامت بها مع وفد من اللجنة إلى العراق، أنه لا يوجد في القانون العراقي ما ينص، وبتشريع مستقل، على الاختفاء القسري.
وقالت إن “عدم وجود تعريف صريح للاختفاء القسري في التشريع الوطني كجريمة مستقلة، أمر مقلق للغاية، وأن العمل على جريمة غير موجودة في الإطار القانوني الوطني هو وهم، بغض النظر عن الأساليب والأهداف الموضوعة”.
ويوجد خلط بين مفهومي الفقد والاختفاء القسري، وأن هناك تشريعات غير عراقية قد تعتبرهما أمراً واحداً، لكن بموجب القوانين العراقية تعني أمرين مختلفين.
ولا ينحصر المفقودون بسبب الاعتقال او الاختفاء القسري في العراق، بالسنوات المرتبطة بحكم “داعش”، بل يمتد ذلك الى سنوات العنف والحرب الداخلية (2004-2009) وقبلها إبان الحكم الدكتاتوري والحروب الخارجية للبلاد، وهو يجعل العراق يضم أكبر عدد مفقودين في العالم تقدرهم لجنة الصليب الأحمر الدولية بمئات الآلاف.
طه عزيز (76 سنة) مواطنٌ من غرب نينوى، اعتقلت عناصر مسلحة شقيقه ونجليه لدى محاولة هروبهم باتجاه القوات العراقية جنوب الأنبار من المناطق التي يسيطر عليها “داعش” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، أخبره مرشح للانتخابات البرلمانية في 2021 بأن الكثير من المغيبين على قيد الحياة في معتقلات سرية، لكن جهات حزبية تطلب مبالغ مالية كبيرة لإطلاق سراحهم.
يقول: “مستعد لبيع منزلي واعطيه لأي شخص يخبرني عن مكانهم”.
رئيس “المنظمة المتحدة لحقوق الإنسان” سامي الفيصل، يقول بشأن المختطفين بأنهم من أهالي مدينة الموصل، ومعظمهم متقاعدون ومرضى، فروا من الموصل خلال فترة سيطرة داعش بهدف الوصول إلى العاصمة بغداد لكن “ميليشيات مسلحة اعتقلت جزءاً منهم في صحراء الأنبار” ولا معلومات بشأنهم لغاية الآن.
ويضيف: “السلطات تلتزم الصمت ولا تجرؤ على فتح الموضوع”، داعياً إلى تدخل دولي لحسم هذا الموضوع، والتأكد من أماكن احتجازهم إن كانوا ما زالوا على قيد الحياة.
ولفت الفيصل إلى تلقيه معلومات عن وجود 1330 عينة من الجثث في الطب العدلي بمدينة الموصل، لم يجر لها فحص DNA لغاية الآن للتأكد من عائديتها وأن أغلبها لمواطنين كانوا معتقلين لدى داعش خلال فترة سيطرته على المدينة.
توجهنا بالسؤال عن هذا الأمر إلى الطب العدلي في الموصل، ونظراً لحساسية الأمر، فضل موظف التقيناه ألا نشير إلى اسمه. أخبرنا بأن الرفات لمجهولين “لم يتقدم الأهالي بطلبات بشأنها حتى نجري فحص الحمض النووي عليها”.
وأشار إلى أن “الطب العدلي أراد تنظيم قاعدة بيانات خاصة بالمفقودين لكي تعدهم الدولة (شهداء) ويحصلوا على الحقوق المترتبة على ذلك “لكن ذوي المفقودين رفضوا الفكرة مع تمسكهم بأمل أن يكون مفقودوهم أحياء على رغم مرور أكثر من 5 سنوات”.
داليا المعماري، ناشطة مدنية وترأس مؤسسة “الخط الإنساني” تشارك في حملة بدأت منذ 2018 أطلق عليها (أين مختطفي داعش) بالتعاون مع منظمات أخرى تنشط في متابعة ذات الملف مع أهالي مفقودين، قالت بأن الهدف هو معرفة مصير المفقودين، من خلال تشكل لجنة حكومية لتقصي الحقائق بإشراف مجلس النواب العراقي.
وتؤكد بأن عدد المفقودين الدقيق في نينوى خلال فترة سيطرة داعش عليها بين 2014-2017 وفقاً لوثائق قالت إنها بحوزتها هو 6000 مفقود. وأن 430 شخصاً من أهالي نينوى اختطفتهم في 2017 قرب سيطرة (الوند) جنوب نينوى جهات “خارجة عن القانون” (تقصد فصائل مسلحة غير داعش) وكان المختطفون محامين وعناصر في الجيش والشرطة وسائقي شاحنات ومتقاعدين.
اضافة “مختطفي” الوند الى مختطفي بزيبز في صحراء الأنبار، والذين تؤكد روايات أقارب الضحايا اختفاءهم هناك، يظهر لنا أن أعداد المختطفين على يد الميليشيات، يبلغ نحو 850 مختطفاً، وقد يكون العدد أكبر من ذلك بكثير لعدم وجود قاعدة بيانات، أو حتى جهة رسمية أو غير رسمية تملك إحصاء.
آمال ذوي المفقودين
اعتقد الكاتب المختص بالشأن الاجتماعي مروان محسن، أن خروجه من مدينة الموصل بعد سيطرة تنظيم “داعش” عليها، سيعني تخليه عن مدينته، لذا قرر البقاء ورصد الانتهاكات التي يقوم بها عناصر التنظيم، ونقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى العالم.
تتذكر ذلك عنه ابنته (23 سنة) بكثير من الاعتزاز، وتقول بأن عناصر داعش لم يكونوا يحتكون بالمواطنين في الأيام الأولى لسيطرتهم على الموصل في حزيران/يونيو 2014، لذلك فكثيرون وضمنهم والدها كانوا يتنقلون بحرية على الرغم من معاداتهم التنظيم.
لكن يوم الأربعاء 22 تشرين الثاني/أكتوبر 2014، طرق باب منزلهم الكائن في الجانب الأيسر للمدينة عناصر من التنظيم طلبوا من مروان مرافقتهم لأن هنالك من يريد أن يطرح عليه بعض الأسئلة على أن يعود في اليوم ذاته.
تقول الابنة: “كنا نسمع في تلك الأيام وحتى قبلها ما بدأوا يفعلونه بالمعارضين لهم، ومنهم طبيبة نسائية أسمها غادة شفيق كانت جارة لبيت جدي في حي الطيران، قتلوها بالسكاكين أمام منزلها في شهر آب من تلك السنة، لذلك عندما عرفت أمي بأنهم أخذوا والدي سقطت على الأرض فاقدة الوعي”.
مرت الساعات والأيام والأشهر ثقيلة على العائلة، ولم يبق باب لم يطرقه أفرادها بحثاً عن رب الأسرة، وجابوا مع عائلات أخرى تفتش عن مفقوديها، مقرات أمن التنظيم، المستشفيات، ودائرة الطب العدلي حيث تحفظ الجثث، ويعودون في كل مرة خائبين.
“أصعب يوم مر بحياتي، كان يوم الخميس 6 آب 2015، فقد سمعنا ان التنظيم علق في الطب العدلي أسماء من قامت بتصفيتهم، أذكر أن أمي خرجت من البيت حافية القدمين راكضة نحو سيارة خالي”، تقول الابنة وهي تضع يدها على فمها بتأثر، ثم تواصل:
“كانوا قد علقوا قوائم بأسماء 2070 شخصاً على جدران دائرة الطب العدلي، أمي لم تنزل من السيارة، بقيت تدعو الله أن لايكون أسم أبي من بينهم، بينما كنت أنا وخالي وشقيقي الأكبر ندقق في القوائم لكننا لم نعثر على اسمه”.
أكثر من 8 سنوات مرت، وما زالت عائلة مروان متمسكة بأمل عودته، ورفضت مثل عائلات أخرى تقديم طلب للجهات المختصة لاعتباره “شهيداً”.
المتخصص بالشأن المحلي العراقي، الباحث سلمان غانم، يشير بدوره إلى أن واحدة من أسباب عدم إنهاء ملف المفقودين في العراق هو “اقحامهم من قبل أحزاب سياسية ضمن أجنداتها الدعائية في الانتخابات والترويج لنفسها”.
ويقول بأن برلمانيين ومرشحين في الانتخابات بعد مرحلة داعش “كانوا يبيعون الوهم لأهالي المفقودين، بأنهم سيعودون، بل أشاع بعضهم بأن الكثير من المفقودين إنما معتقلون لدى القوات الأمنية التي كانت قد عثرت عليهم في سجون داعش خلال حرب طرده من مناطق غربي العراق”.
ويذكر أن الانتخابات التشريعية جرت لمرتين بعد تحرير الموصل، الأول في 2018 والأخرى في 2021، وفي كلتيهما كان مرشحو نينوى يركزون في دعايتهم الانتخابية على ملف المفقودين والمختفين قسرياً والإدعاء بتبني ملفاتهم.
“وماذا لو ظهر بعد أن نصدر شهادة وفاته؟!” تقول أم غازي (56 سنة) التي تأمل بلقاء ابنها المفقود منذ 8 سنوات، وهي تضع يدها على جبهتها. وتضيف :”هل أقول له بأننا أردنا نسيانه بسرعة، وأننا أردنا توزيع أغراض غرفته على أشقائه؟”.
“كان يبلغ التاسعة عشرة حين قبض عليه عناصر داعش في أيار/ مايو 2015 في منطقة الزهور بالجانب الأيسر للموصل واقتادوه إلى مكان مجهول”.
وتتابع: “البعض قالوا ن عناصر الحسبة أمسكوا به وهو يدخن سيجارة، وهنالك من أخبرنا بأنهم عثروا على صور في هاتفه، وآخرون قالوا إنهم سمعوه وهو يسب الدولة الإسلامية”.
بعد مراجعات عدة للمحكمة الشرعية، تم تهديد والد فتحي بالاعتقال لمنعه من السؤال مرة أخرى.
بعد وفاة زوجها عام 2021، ما زالت أم غازي تصر على التمسك بالأمل رافضة تقديم أي طلب لأي جهة رسمية لإعلان وفاة ابنها.
مقابر جماعية
التحرك العراقي بدعم دولي لتحرير الموصل من داعش لم يتم إلا في تشرين الأول/أكتوبر2016 واستغرقت عملية التحرير زهاء تسعة أشهر، إذ انتهت في تموز/يوليو2017. ولم يتم فتح الغالبية العظمى من المقابر الجماعية المقدرة أعدادها بين 96 إلى 98 مقبرة، يرجح أنها قد تضم رفات غالبية المفقودين، وذلك لافتقار العراق للإمكانيات الفنية اللازمة لفتحها بحسب مسؤولين.
يؤكد الناشط المدني محمود هاشم، أن حل مشكلة المفقودين ترتبط “بفتح المقابر الجماعية” ويعتقد بأن تنظيم داعش كان يتعمد نقل اعداد من المواطنين الذين يعتقلهم عناصره إلى مناطق معينة ويقتلهم بطريقة استعراضية ومن ثم يدفنهم هناك.
وذكر بأن ما تعرف بـ(الخسفة) أو كما يعبر عنها أهل جنوب الموصل بـ(الخفسة) هي أكبر مقبرة جماعية، تضم “بين 400 إلى 7000 جثة لمدنيين ومنتسبي الجيش والشرطة”.
والخسفة عبارة عن فوهة طبيعية تبعد 20 كلم جنوب الموصل في منطقة نائية قرب قرية تسمى العذبة، يصفها عضو مجلس النواب أحمد الجبوري، بأنها شق أرضي بعمق عشرات الأمتار كان تنظيم داعش يلقي ضحاياه بداخلها، وقام بردم جزء منها قبل أيام من إنهاء سيطرته على الموصل.
ولم ينحصر استخدام الخسفة بتنظيم داعش لإخفاء أي أثر لضحاياه، بل شمل الأمر القوات الأمريكية التي احتلت العراق بين 2003-2011، بحسب معلومات جهات أمنية تواصلنا معها، ذكرت أن تلك القوات ألقت جثثاً في الخسفة لمقاتلين تابعين لفصائل جهادية مسلحة خاضت حرب شوارع ضدها في ذلك الوقت. وتلك الفصائل فعلت الشيء ذاته والقت بجنود أميركيين قتلى فيها، كما ان القوات العراقية قامت بالأمر عينه وألقت جثث مقاتلين من تلك الفصائل في الخسفة.
وأكدت تلك المصادر قيام “داعش” بإلقاء جثث منتسبي الجيش والشرطة العراقيين فيها الذين كانت تقوم بخطفهم خلال عملياتها، وبعد سيطرته على نينوى في حزيران/ يونيو 2014 أخذ يلقي بعد كل عملية تصفية جثث معارضيه فيها.
يؤكد جزءاً من هذه المزاعم، عضو مجلس النواب أحمد الجبوري الذي قال في تصريحات صحفية في 30 آب/أغسطس 2019 ان “من دفنت جثثهم في مقبرة الخسفة، ومعظمهم من منتسبي الجيش والشرطة ويبلغ عددهم 1600 منتسب، هم ممن لم يتمكنوا من الهرب بعد سيطرة داعش على الموصل”، مبيناً أن “الحكومة اعتبرتهم تاركين للخدمة وهاربين”.
عضوة مجلس النواب رحيمة حسن الجبوري، تشير إلى أن ما يعيق فتح الخسفة، هو امتلاك نينوى جهازاً واحداً فقط لفحص DNA، مشيرة الى ان النواب الممثلين عن نينوى “تبنوا شراء أكثر من 5 أجهزة لحل المشكلة تمهيداً لفتح المقبرة”.
يرد على ذلك مصدر في “صحة نينوى”، بالقول أن الأمر لا يتعلق بالفحص، بل بوجود عدد كبير من الجثث متراكمة فوق بعضها في حفرة يصل عمقها لأكثر من 100 متر، تم ردمها على مرحلتين، الأولى من قبل داعش والثانية من قبل جهة مجهولة قبل سنتين.
ويوضح: “سيحتاج الأمر إلى إمكانيات دولية غير متاحة في العراق، وقد يستغرق الأمر سنوات”، ثم يستدرك مشككاً بما يصرح به سياسيون عن المقابر الجماعية: “هذه مجرد تصريحات لا أكثر، لو كانوا صادقين، لعملوا على فتح المقابر الأخرى سهلة الفتح، فهنالك العشرات منها وهي أصغر بكثير من الخسفة ولكن حتى الآن لم يفتحوا سوى 7 منها فقط في بادوش وسنجار”.
وتقدر المنظمة المتحدة لحقوق الإنسان في نينوى أعداد المدفونين في مقبرة الخسفة بـ4700، في حين أن جهات أخرى غير رسمية تقدر أعدادهم بـسبعة آلاف.
ومن المقابر الجماعية الأخرى في نينوى (بير علو عنتر) وهي بئر معروفة تقع في قضاء تلعفر (غرب الموصل) ذو الغالبية الشيعية والتي نفذ فيها التنظيم عمليات ابادة جماعية. ويقدر نشطاء من أبناء المنطقة أعداد الجثث فيها بأكثر من 2000 جثة. وهناك مقبرة (السحاجي) جنوب غربي الموصل، في حين تنتشر المقابر الأخرى بمناطق مختلفة بمحافظة نينوى ومن بينها قضاء سنجار الذي قام تنظيم داعش بعمليات إبادة جماعية فيه عقب سيطرته عليه في آب/ أغسطس 2014، إذ قتل واختطف نحو 6000 من ساكنيه الايزيديين.
متعاون مع “النظام الكافر”
إبراهيم (58 سنة) اعتقله عناصر من “داعش” في تشرين الثاني 2015 للاشتباه بأنه كان مرشحاً للانتخابات البرلمانية 2010، وعادة ما كان التنظيم يعاقب المرشحين للانتخابات البرلمانية أو المحلية بالإعدام باعتبارهم متعاونين مع “النظام الكافر”.
زج أبو إبراهيم مع آخرين في غرفة بدون نافذة في مبنى بضواحي الموصل، واستدعي للمحكمة الشرعية الخاصة بالتنظيم مرات عدة، وأثبت عبر شهود أنه لم يكن مرشحاً ولا شأن له مطلقاً بالسياسة، ومع ذلك أبقي في التوقيف 5 أشهر.
يقول إنه التقى بكثيرين في غرفة الحجز “كانوا يدخلون كل يوم أناساً جدداً، ويخرجون آخرين، البعض كانوا يعودون إلى أسرهم أما الآخرون فيذهبون إلى قبورهم”.
يوضح: “الذين تكون أيديهم مقيدة إلى الخلف، فهذا يعني بأنهم محكومون بالإعدام، أما الذين يأتون مكبلين بأكبال او قيود حديدية تفتح بالمفاتيح فيعني ذلك أنهم مسجونون ينظر في التهم الموجهة إليهم”.
ويقول بأنهم كانوا يختارون أشخاص معروفين او ذات مناصب أو حضور اجتماعي ويُعلنون قتلهم لإثارة الرعب، كما في حالات عرض عمليات إعدام في الشارع. أما البقية فكانوا يقتلون ويدفنون دون حتى إبلاغ أقربائهم.
ابتزاز ذوي المفقودين
بعد تحرير الموصل من قبضة داعش صيف 2017 نشطت عصابات الاحتيال على ذوي المفقودين خلال فترة داعش أو “المعتقلين – المختطفين” على يد الميليشيات خلال عمليات التحرير، فيقدمون لهم معلومات زائفة تفيد بوجودهم أحياء مقابل أموال غير قابلة للاسترداد.
وتتمسك كثير من العائلات بأمل أن يكون عناصر داعش أو الميليشيات يخفون أبناءهم في أماكن سرية داخل العراق وسوريا، لذا يتعاملون بحذر شديد لأنهم يخشون أن يؤدي أي تصرف للمساس بأبنائهم، فيحجمون عن تقديم شكاوى ضد المحتالين أو الإدلاء بتصريحات للإعلام.
لكن آخرين لا يؤمنون بذلك ويبدون استعدادا للحديث، بيد أنهم يفضلون تغيير الأسماء والتفاصيل حفاظاً على مشاعر بقية الأفراد. ونحن التزمنا بذلك على مسار هذا التحقيق.
يحكي أزهر(32 سنة) وهو من الضاحية اليسرى للموصل، قصة اعتقال شقيقه الأكبر “وسام” في تموز/يوليو 2014: “كنا قد غادرنا جميعنا إلى مدينة أربيل في الأيام الأولى من انسحاب الجيش من الموصل ودخول داعش إليها في حزيران، لكن هناك من كان يروج بأن عناصر داعش لا علاقة لهم بالمدنيين، وأنهم يفتشون فقط عن أفراد الشرطة والجيش والسياسيين، فاقتنع وسام بذلك وعاد للموصل دون أن يخبر أياً منا”.
لم يكن الشاب متزوجاً، وأعتقد بأن عدم اثارته لأي جلبة وبقائه في منزل العائلة دون خروج لأي مكان لن يلفت إليه أنظار التنظيم، لكنه كان مخطئاً، إذ داهم عناصر من داعش المنزل واعتقلوه.
لم يكن أزهر يعلم بأن تلك ستصبح واحدة من أسوأ أخطائه، فبمجرد تواصله من “الأمنية” التابعة للتنظيم، اعتقلوه وخضع على مدى أربعة أشهر لأنواع من التعذيب للحصول منه على معلومات قالوا إن شقيقه المعتقل يخفيها عنهم.
لم يلتق بشقيقه قط ولم يعرف مكانه، وذات صباح ألقوه على رصيف المنزل وهو فاقد للوعي بسبب التعذيب. لكن كل ذلك كان قابلاً للاحتمال على حد قوله، مقابل ما سيجري لاحقاً، إذ يقول بأن شخصاً اتصل بوالدته في أواخر 2017، وأكد لها امتلاكه معلومات عن مكان وجود وسام.
ويواصل :”يبدو أنه كان شخصاً يعرف شقيقي معرفة شخصية، لأنه أعطى مواصفاته وطريقه حديثه كدليل على صدقه، وعبثا حاولنا إقناع أمي بأنه شخصٌ نصاب، كان يتصل بهاتفها عبر رقم خاص، يقول لها بضع جمل وينهي المكالمة، وفي المرة الأخيرة طلب منها 30 ألف دولار ليخبرها عن مكانه، وجمعنا المبلغ بعد أن استدنا نصفه، وسلمناه لامرأة مبرقعة بحسب الاتفاق الذي جرى بين النصاب وأمي، وحذرها بأن وسام سيموت إذا بلغنا القوات الأمنية”.
اتصل الشخص ليلتها، وأخبر الأم بأن ابنها في بلدة أسمها الباغوز في محافظة دير الزور بسوريا، دون أي تفاصيل أخرى، ولم يعد للاتصال ثانية. يقول أزهر، بأنها أبقت الهاتف مشحونا وقريباً منها ليل نهار لغاية شهر نيسان/ أبريل 2019، إذ تمكنت العائلة من التواصل مع سكان من تلك البلدة التي كانت قد تحررت منذ أيام لكنهم نفوا أن يكون وسام عندهم.
مصدرنا في شرطة نينوى، قال إن بعض ذوي المفقودين – دون تحديد عددهم- سجلوا في السنوات الأخيرة شكاوى نصب واحتيال ضد أشخاص تقاضوا منهم أموالاً مقابل معلومات عن أبنائهم، وذكر بأن تهماً بهذا الخصوص وجهت لمحامين وحتى عناصر في الجيش والشرطة.
ويوضح: “من خلال قوائم المفقودين الموجودة لدى الجهات المعنية يحصلون على المعلومات ويتواصلون مع ضحاياهم، ويخبرونهم أن بوسعهم معرفة أماكن احتجازهم في سجون في بغداد أو جنوب البلاد، فيأخذون منهم جزءاً من الأموال التي يتفقون عليها، وبعدها يماطلون أو يختفون ولا يردون على اتصالات الأهالي”.
أحد هؤلاء، محامٍ في منطقة الرشيدية شمال مدينة الموصل، تقاضى مبالغ تتراوح بين 20 ألف إلى 30 ألف دولار من عائلات عدة، يدعي بأنه يمتلك معلومات عن أبنائها المفقودين، وأنهم أحياء ومعتقلون في سجون سرية بالعاصمة بغداد وجنوبي البلاد.
تواصل معد التحقيق مع المحامي على أنه شقيق مفقود خلال فترة وجود “داعش” في الموصل، زوده بالاسم الثلاثي لشقيقه المفترض وتاريخاً غير حقيقي للقبض عليه في 2015، وطلب منه العثور عليه، فوافق المحامي على الفور مؤكداً بأن لديه علاقات مع رجال أمن برتب عليا، وأدعى أنه بتلك الطريقة توصل إلى الكثير من المفقودين الأحياء، وطلب مبلغ 10 ألف دولار كمقدمة غير قابلة للرد، مدعياً أن نصفها ستذهب لضباط في الشرطة سيوفرون له المعلومات.
ورفض المحامي تنظيم اتفاقية محاماة (عقد ينظمه الموكل مع المحامي لتثبيت الاتفاق المتضمن مهماته والأتعاب التي يتقاضاها كمقدمة وأيضاً المبالغ الأخرى التي يفترض أن يتقاضاها بعد إنجاز مهمته) مدعياً أن لديه شركاء من الضباط ولن يكون موقفه القانوني سليماً إن أورد أسماءهم، كما أنه ليس من العدل أن يوقع على مبالغ لن يتقاضاها لوحده.
وتبرر الناشطة المدنية داليا المعماري، التي فقدت هي الأخرى والدها بسبب “داعش”، عدم لجوء العائلات التي وقعت ضحية للمحتالين إلى القضاء، بالآمال التي يحاولون التمسك بها إلى آخر لحظة، لافتة إلى أنها على تواصل مع أمهات وقعن ضحايا احتيال لأشخاص أوهموهن بأن أبناءهن أحياء، مشيرة إلى أن عدد تلك الحالات بالعشرات.
وتضيف: “نعلم جيداً بأنهم يكذبون، إذ لم يتم العثور مطلقاً على أي من المفقودين بعد 2017، لكن ماذا يمكن أن نقول لأمٍ تعيشُ من أجل معرفة شيء عن ابنها، وتفضل تصديق وهم بأنه حي، على واقع أنه مدفون في مقبرة جماعية، وأن حصولها حتى على أجزاء من رفاته شبه مستحيل”.
المصدر: شبكة نيريج