قصة مدينة تمبكتو التي كانت إحدى أغنى مدن العالم قبل أن تغمرها رمال الصحراء الكبرى
منوعات | 10-09-2021, 16:57 |
بغداد اليوم-متابعة
بينما تقترب الشمس من المغيب في الأفق، وقبل أن يرفع آذان المغرب، يبدأ أغ محمد علي رحلته الليلية سيرًا على الأقدام في شوارع تمبكتو الرملية في مالي.
وفي الطريق، انضم إليه صديق ثم آخر وشاركاه المسير.
وتواصل الترحاب بين الأصدقاء لفترة طويلة وجعلوا يتبادلون السؤال عن الأهل والأصدقاء.
وعبر الأصدقاء شوارع تمبكتو، وواصلوا السير حتى الكثبان الرملية خارج الضواحي الغربية للمدينة وهم يرتدون الزي التقليدي لسكان تلك المناطق.
وبعد أن خرج الأصدقاء من المدينة، افترشوا الرمال لإعداد إبريق من الشاي.
يقول أغ محمد علي: "إن الكوب الأول من الشاي يكون قويا مثل الموت، بينما الثاني يكون متوسطاً، أما الثالث فهو جميل مثل الحب؛ لابد أن تشرب الثلاثة".
وكمعظم أبناء الطوارق، هؤلاء البدو الذين يعيشون في الصحراء الكبرى، وُلد أغ محمد علي في الصحراء غير بعيد من تمبكتو.
وتقول وثيقة ميلاده إنه ولد في عام 1970، ولكن ذلك تاريخ تقديري من أجل التوثيق الرسمي، ولا أحد يعلم على وجه الدقة التاريخ الحقيقي لميلاده. وفي ذلك يقول أغ محمد علي: "أعتقد أنني ولدت قبل هذا التاريخ".
ويقول أغ محمد علي، الذي ترعرع كطفل في قلب الصحراء، إن الخطر الذي كان يتهدده هناك لم يكن يزيد عن عاصفة ترابية قادمة من بعيد.
ويقول: "ذات يوم في صغري، رحت أبحث عن الماء ممتطيا ناقتي، وفي طريق عودتي، هبت عاصفة رملية، تركت السماء سوداء حتى أنني لم أكد أتبين يدي. ولم يسبق ذلك أي تحذير. في خمس دقائق فقط حدث كل شيء. كان علي أن أنبطح على الأرض وأنتظر حتى تنتهي العاصفة. وقد استمر ذلك لثلاث ساعات. بعدها عدت إلى المنزل لكني لم أجد أبي الذي كان قد خرج للبحث عني".
ولم يرَ الحاج محمد علي المدينة إلا عندما بلغ سن المراهقة، وفي المدينة اتخذ لنفسه منزلا، قائلا: "لم أصدق حجم الأنوار".
ودفعت الحاجة إلى مصدر الرزق، أغ محمد علي إلى تمبكتو، حيث بدأ عمله كمرشد سياحي للراغبين في استكشاف آفاق الصحراء.
وظل قلب أغ محمد علي معلقاً بالصحراء حتى رغم وجوده في المدينة. وعندما لا يكون هناك عمل يربطه بالمدينة، يذهب إلى الصحراء ويقضي شهورا يرعى النجوم ويشرب الشاي مع الأصدقاء.
وإذا ما وجد نفسه مضطرا للبقاء في المدينة، يتحين أغ محمد علي الفرصة للخروج ليلاً إلى تخومها بحثا عن الصحراء.
وجعل أغ محمد علي يتنقل بين المدينة والصحراء، وبنى جسورا زمانية ومكانية بين العادات الصحراوية القديمة ومتطلبات الحياة العصرية.
وعمل أغ محمد علي كمرشد سياحي. وهو من قديم يروي القصص بشغف حتى بين أبناء بلاده قبل السائحين.
يقول: "ولد أبنائي في الصحراء، كما جرت العادة، ونحن نعيش في تمبكتو، وأرغب في إلحاقهم بالمدرسة، ولا أريدهم أن يكونوا مثلي".
ويتحدث أغ محمد علي سبع لغات بالرغم من أنه لا يعرف القراءة والكتابة.
يقول: "في يوم ما سأذهب بأبنائي إلى الصحراء لمدة طويلة لكي يتعرفوا عليها بصورة جيدة، وحتى لا تنقطع صلتهم بها".
وعلى مدى عقد من الزمن، تمكّن أغ محمد علي من إظهار جمال المنطقة للسائحين الذين حالت الاضطرابات والنزاعات دون توافدهم على منطقة الساحل والصحراء، وقد كان لذلك تبعاته على أهالي تلك المناطق، ولا سيما العاملين في قطاع السياحة.
وتشكّل قصص أغ محمد علي حنينًا للأيام الذهبية وزمن السياحة في الصحراء. وحتى اليوم يتطلع أغ محمد علي إلى ذلك اليوم الذي يعود فيه السائحون إلى المنطقة.
وكانت تمبكتو في العصور الوسطى ملتقى لطرق التجارة المربحة في القارة السوداء. كما إنها كانت إحدى أغنى مدن العالم في ذلك الوقت.
الملح، والذهب، والعاج، والسلع الأوروبية الثمينة مثل الكتان والعطور والزجاج كلها كانت تعبر من تمبكتو ذات يوم.
وكان يعيش في تمبكتو في القرن السادس عشر الميلادي نحو مئة ألف نسمة - أكثر من أقرانهم في لندن آنذاك.
وضمت تمبكتو ذات يوم قرابة المئتي مدرسة، وجامعة استقطبت الدارسين من أماكن بعيدة مثل غرناطة وبغداد. ولقد عرفت المدينة بمكتباتها ومخطوطاتها التي لا تقدر بثمن.
هذه الأسرار، جعل يرويها أغ محمد علي للسائحين بأسلوب ساحر، وكثيرا ما اصطحب هؤلاء السائحين إلى مكتبات عائلية خاصة وأطلعهم على مخطوطات غاية من الندرة تعود إلى العصر الذهبي لتمبكتو.
من بين المخطوطات، سيرة النبي محمد (ص) على أوراق من ذهب، إضافة إلى أطروحات علمية لشخصيات إسلامية عاشت في تلك الحقبة الزمنية.
وفي حكاياته للغرباء الزائرين عن تمبكتو، فطن أغ محمد علي إلى افتتان العالم الخارجي بالمدينة.
ولاحظ ابن تمبكتو محاولة هؤلاء السائحين الربط بين ما يسمعونه عن ماضي المدينة وبين حاضرها بشوارعها التي تكسوها الرمال ومساكنها الطينية المتهدمة.
وصحب أغ محمد علي هؤلاء السائحين إلى الأسواق ليروا الإبل وقد وصلت محملة بزكائب الملح من منطقة تَوْدنّي في قلب الصحراء.
وقبل هبوب العاصفة، أسرع أغ محمد علي بالسائحين إلى ملجأ من الرياح المحملة بالرمال تحت سماء سوداء.
كمرشد سياحي، كوّن أغ محمد علي صداقات من حول العالم، وقد أتيحت له فرصة السفر إلى أوروبا، التي وجد فيها عالما غريبا، تماما كما يجد الوافدون في مدينته تمبكتو.
يحكي أغ محمد علي: "عندما زرت أوروبا لأول مرة، شاهدت المياه تجري على الأرض، وقلت في نفسي يا لهؤلاء الناس! إنهم مجانين! ...وما هذه الوتيرة السريعة التي تجري بها الأمور كما لا يمكن أن يخطر ببال أحد في الصحراء؟!"
ويقول: "في الصحراء لدينا وقت كثير لكن لا ماء هناك .. في أوروبا ثمة وفرة من الماء لكن لا وقت لشيء ".
لكن رغم كل هذه المسافة بينه وبين الصحراء، وجد أغ محمد علي رابطا بينهما: "عندما وقعت عيني على المحيط لأول مرة في برشلونة، لم أتمالك نفسي من الصياح لأنه يشبه الصحراء؛ لا حدود لنهايته".
ومن أسفاره، فطن أغ محمد علي إلى مواطن الجذب في تمبكتو، ذلك أن باريس وبرشلونة كانتا مدهشتين بالنسبة له، تماما كما هي حال تمبكتو لمعظم الناس حول العالم.
وذات مرة، ذهب أغ محمد علي إلى استاد برشلونة الرياضي، وهناك صاح: "في مكان واحد يجتمع أشخاص يفوقون في العدد سكان تمبكتو".
وعندما يرغب السائحون في رؤية المزيد من الصحارى، يصحبهم أغ محمد علي إلى منطقة أراوان في قلب الصحراء، وهي مدينة غارقة في الرمال على مسافة 270 كيلو مترا إلى الشمال من تمبكتو.
وسرعان ما يلوح في الذهن مشهد سفينة وهي تصارع الغرق، لدى رؤية منازل أراوان الغارقة في الرمال التي تغلف المدينة.
وفي الأسابيع الأخيرة من الرحلة، تهب الرياح بلا هوادة، وتشبه الأمواج في محيط وهي تتكسر على الشاطئ.
وهناك النسوة يحملن الماء في جرار من الآبار التي لولاها لاستحالت الحياة في هذه البقعة التي لا تعرف المطر عقودًا من الزمن.
الرمال في كل مكان، ولا شيء ذا قيمة إلا نخلة وحيدة قد تنبت وتجد طريقها للنماء.
"في الماضي كان التنقل بين الأماكن دليلا على القوة، أما الآن فالمكوث في مكان هو الدليل على القوة"، هكذا يردّ أغ محمد علي عندما يسأله أحدهم: "لمَ يتعين على الناس البقاء في مكان كهذا؟"
يقول أغ محمد علي: "لهذا يبقى هنا أهل أراوان. للتدليل على وجود مدينتهم".
ورغم اندلاع الحروب في أفريقيا شمالا وغربا على نحو يحرم السائحين من زيارة تمبكتو، ظلّ أغ محمد علي رافضا النزوح.
يقول: "عندما أكون في الصحراء، أشعر بحريتي. بالأمان. لا يعرف الخوف طريقا إلى قلبي. هنا يمكنني أن أتفكر. أن أستبصر. إنه أنا. الرافض أبدًا فكرة النزوح. إنه وطني".